البيولوجيا والتطوّر > الأحياء الدقيقة

عملية القيصرية والمِكروبيوم البشري، هل من تأثير يستدعي القلق؟

في المرة القادمة التي تنظر فيها إلى المرآة، فكّر في هذا الأمر: أنت في حقيقة الأمر ميكروب أكثر من كونك إنسانًا، فعلى أجسامنا وداخلها هناك من الأحياء الدقيقة كالبكتيريا والفطريات والفيروسات ما يفوق عدد الخلايا البشرية (1)، ليس هذا فحسب بل تتفوق الجينات المِكروبية على جيناتنا بالعدد بما يعادل 100 ضعف مقارنةً بعدد الجينات البشرية الذي قدر ب 20 ألف جين (2).

أطلق العلماء مسمى المِكروبيوم micrbiome على هذا المجتمع من الكائنات الحية الدقيقة وجيناتها، التي تتشارك معنا أجسادنا، ويؤدي المِكروبيوم أدوارًا عديدة للحفاظ على صحتنا، فلا شكَّ في أهمية البكتيريا التي تعيش على جلدنا وفي أمعائنا؛ إذ ربطت عديد من الدراسات الخللَ في توازن تركيبة بكتيريا الأمعاء مع جعبة من الأمراض منها الربو التحسسي والتهاب المفاصل الروماتويدي وغيرها من الأمراض الالتهابية (3)، كذلك فتركيب المِكروبيوم البشري يختلف من شخص إلى لآخر، ويتأثر بعديد من العوامل؛ كالغذاء والبيئة ونمط الحياة (4).

كل هذا الغموض الذي يلف المِكروبيوم جعله موضوعًا شيقًا جذب اهتمام الباحثين؛ إذ تساءل الباحثون عن نقطة بداية هذا المِكروبيوم. 

كان الاعتقاد السائد فترةً طويلة أنَّ هذه الأحياء الدقيقة المتعايشة معنا ما هي إلا إحدى الأشياء الكثيرة التي نكتسبها من أمهاتنا، ففي أثناء الولادة الطبيعية وفي خلال مرور الوليد عبر قناة الولادة يتغطى بالمِكروبات الموجودة فيها، لتشكل البذور الأولى لمجتمع الأحياء الدقيقة الصديقة التي تتكاثر على الجلد وفي الأمعاء، يضاف إليها لاحقًا بكتيريا من حليب الأم وتستمر بالتنوع من المِكروبات التي يصادفها وتلك التي يواجهها (5). فما زال يُعتقد أن الجنين البشري يتطور في بيئة خالية من البكتيريا التي تتلوث لحظة الولادة نتيجةََ تعرضِ المولود لمجموعة متنوعة من الأحياء الدقيقة في خلال عبوره المهبل خارجًا؛ إذ يعد هذا السبيل نظامًا بيئيًّا مستعمرًّا من أصناف بكتيرية محددة (6).

يولد الأطفال ولديهم حالة التحمل المناعي immunological tolerance الناتجة عن الخلايا التائية المنظمة regulatory T lymphocytes القادمة من الأم في خلال مرحلة الحمل (7)، الذي يساهم في جعل جسد الطفل مستقبِلًا مرحِّبًا بالأنواع البكتيرية التي تبدأ بالاستعمار في الأمعاء وعلى الجلد، ومنها ما يبقى ليشكل جزءًا من المكروبيوتا لدى البالغين.

في أثناء العملية القيصرية تحصل الولادة دون تعرض الجنين للمفرزات الموجودة في المهبل وغيرها من مفرزات الأم التي تخرج في خلال الولادة الطبيعية، كذلك فإنها تُجرى تحت جرعات من المضادات الحيوية، فهل يتجاوز الطفل المولود بعملية القيصرية نقطة البداية لتشكل المِكروبيوم؟ وهل ترتبط طريقة الولادة مع تركيبة المِكروبيوم لدى الوليد؟ وهل من تأثير يذكر للمضادات الحيوية المأخوذة قبل عملية القيصرية على الجراثيم المعوية لدى الأم وطفلها المنتظر؟  

كثير من الأسئلة ما زالت موضوعًا للجدل؛ فليس من الواضح ما إذا كانت طريقة الولادة المختارة تحدث تغييرًا في عملية الاستعمار البكتيري المبكر، كذلك لا يعرف العلماء ما إذا كان للتغيير بتركيبة المِكروبيوم البدئي للطفل حديث الولادة دورٌ في حدوث الاضطرابات المتعلقة بتركيبة المِكروبيوم في نهاية الأمر.

للحصول على أجوبة قرر الباحثون من جامعة Cambridge البريطانية دراسةَ التركيبة البكتيرية لمِكروبيوم حديثي الولادة لدى مجموعة من الأطفال الذين وُلِدوا طبيعيًّا وآخرين ولِدوا بإجراء عملية القيصرية وإجراء المقارنات اللازمة، إضافة إلى مقارنة تركيبة البكتيريا المهبلية لكلِّ أم مع طفلها (8).

أظهرت النتائج تعطيلَ انتقال سلالات العَصَوانِيَّات Bacteroides strains من الأم إلى الوليد في عملية القيصرية، إضافةً إلى مستويات مرتفعة من البكتيريا الممرضة في المشافي، وتشمل سلالات المكَوَّرَات المِعَوِيَّة Enterococcus والأَمْعائِيَّة Enterobacter والكلِبْسيلَّة Klebsiella، كذلك لوحظت هذه التأثيرات أيضًا بدرجة أقل في الأطفال المولودين طبيعيًّا الذين خضعت أمهاتهم للمضادات الحيوية من أجل الوقاية، وعند الأطفال الذين لم يحصلوا على رضاعة طبيعيّة من الثدي.

ذكر الباحثون أنَّ المِكروبات المعوية المفيدة مثل فَصيلَةِ الشُّعِّيَّات Bifidobacterium و Bacteroidesوالإشريكية القولونية Escherichia coli شكلت ما يعادل 68.3% من إجمالي بكتيريا الأمعاء عند حديثي الولادة بالطريقة الطبيعية، في المقابل كانت هذه البكتيريا أقل في أمعاء الأطفال الذين ولِدوا بعملية قيصرية، أمّا الأنواع التي توجد عادة في المستشفيات، بما في ذلك المكورات المعوية Enterococcus والمِطَثِّيَّةُ الحاطِمَة clostridium perfringens  الضارة، فقد طغَت بما يعادل 68.25% من إجمالي بكتيريا الأمعاء لديهم.  

كان أحد الحلول المقترحة لتجنيب المولودين قيصريًّا خسارةَ البكتيريا والأحياء الدقيقة المكتسبة من الأم في خلال الولادة الطبيعيّة هو تعريضهم  لعينة من السائل المهبلي بهدف زرع البكتيريا لتعويض المكروبيوتا، بناء على ذلك أُجريت دراسة تجريبية في الولايات المتحدة على عدد محدود من حديثي الولادة، عرِّض فيها الرضع الذين ولدوا بعملية قيصرية لسوائل مهبلية من الأمهات فازدادت المجتمعات البكتيرية لديهم (على غرار أقرانهم المولودين ولادة طبيعية) في الأمعاء والفم والجلد لهؤلاء الأطفال في خلال أول ثلاثين يومًا من الحياة بعد أن كانت أقل قبل تعرضهم للسوائل المهبيلة (9).

لكن ما  سبب الاختلاف في تركيبة المِكروبيوم مع اختلاف طريقة الولادة؟ 

اقترح العلماء أن المضادات الحيوية التي تعطى في العملية القيصرية إلى جانب إزالتها لتهديد الأخماج المحتملة، فإن بإمكانها قتل الجراثيم المفيدة أيضًا، ومما عزز هذه الفكرة انخفاض نسبة البكتيريا من سلالة Bacteroides المفيدة لدى الأطفال المولودين طبيعيًّا الذين خضعت أمهاتهم لعلاج وقائي بالمضادات الحيوية، وتشير هذه النتائج إلى أن بعض الاختلافات في تركيبة البكتيريا لدى حديثي الولادة تتعلق بتعرض الأم للمضادات الحيوية أكثر من قلة التعرّض للمفرزات المهبلية عند الولادة.

من الجدير بالذكر أنَّ صحة الأطفال الذين دُرِس المِكروبيوم لديهم كانت جيدة في خلال فترة الدراسة، لا خلاف إن تمت ولادتهم طبيعيًّا أو بالعملية القيصرية، لكن ما زال غيرَ المعروف ما إذا كانت البكتيريا التي لديها القدرة على التسبب في الالتهابات التي كانت نسبتها مرتفعة أكثر لدى الأطفال المولودين بعملية قيصرية ستسبب مشكلات في وقت لاحق في الحياة، ومع ذلك فإنه من المرجح وجود عواقب لبدء الحياة مع مجموعة خاطئة من المِكروبات (8). 

على الرغم من العواقب المحتملة، لا ينبغي أن تُثني هذه النتائج النساءَ عن إجراء عمليات قيصرية عند اللزوم؛ فالولادة القيصرية تدخُّلٌ طبيٌّ منقذ للحياة، لكن نحن بحاجةٍ إلى فَهم تأثيراتها الطويلة المدى على الأطفال.

المصادر: 

1. Sender R, Fuchs S, Milo R. Are We Really Vastly Outnumbered? Revisiting the Ratio of Bacterial to Host Cells in Humans. Cell. 2016;164(3):337-340.

هنا

2. Turnbaugh P, Ley R, Hamady M, Fraser-Liggett C, Knight R, Gordon J. The Human Microbiome Project. Nature. 2007;449(7164):804-810.  هنا

3- Kim D, Zeng M, Núñez G. The interplay between host immune cells and gut microbiota in chronic inflammatory diseases. Experimental & Molecular Medicine. 2017;49(5):e339-e339.  هنا

4- Gilbert J, Blaser M, Caporaso J, Jansson J, Lynch S, Knight R. Current understanding of the human microbiome. Nature Medicine. 2018;24(4):392-400. 10.1038/nm.4517

5- Dominguez-Bello M, Costello E, Contreras M, Magris M, Hidalgo G, Fierer N et al. Delivery mode shapes the acquisition and structure of the initial microbiota across multiple body habitats in newborns. Proceedings of the National Academy of Sciences. 2010;107(26):11971-11975.  هنا

6- Hyman R, Fukushima M, Diamond L, Kumm J, Giudice L, Davis R. Microbes on the human vaginal epithelium. Proceedings of the National Academy of Sciences. 2005;102(22):7952-7957.  هنا

7- Mold J, Michaelsson J, Burt T, Muench M, Beckerman K, Busch M et al. Maternal Alloantigens Promote the Development of Tolerogenic Fetal Regulatory T Cells in Utero. Science. 2008;322(5907):1562-1565.  10.1126/science.1164511

8- Shao Y, Forster S, Tsaliki E, Vervier K, Strang A, Simpson N et al. Stunted microbiota and opportunistic pathogen colonization in caesarean-section birth. Nature. 2019;574(7776):117-121.  هنا

9- Dominguez-Bello M, De Jesus-Laboy K, Shen N, Cox L, Amir A, Gonzalez A et al. Partial restoration of the microbiota of cesarean-born infants via vaginal microbial transfer. Nature Medicine. 2016;22(3):250-253. هنا