الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الأخلاق وعلم الجمال

هل للأخلاق سلطةٌ على العمل الفني؟

يقودنا البحث وراء علاقة الفن والأعمال الفنية بالأحكام الأخلاقية إلى مساحةٍ جدليةٍ واسعةٍ استقطبت على مر التاريخ اهتمامَ الفلاسفة والمفكرين، وبدؤوا بطرح التساؤلات عنها، هل يؤثر الفن في الأخلاق؟ وهل لا بد للعمل الفني أن يحمل رسائلَ أخلاقيةً ويخضع لمعاييرَ محددة؟

جدلية العلاقة بين الفن والأخلاق:

يحثُّنا الموقف الجمالي على الانتباه إلى العمل لذاته فحسب، في حين تقيِّم الأخلاقُ الفنَّ من خلال تأثيره في السلوك والنُّظم الأخرى في المجتمع وأوضاع الحياة البشرية عامة. أي تهتم بالعلاقات بين العمل الفني وما حوله، فتعيد العمل إلى علاقاته المتبادلة التي أخرجه منها الاهتمامُ الجمالي (1)، وفي مقارنةٍ بين الإنسان الذي يصدر حكمًا أخلاقيًا بحتًا على العمل الفني وبين الإنسان الجمالي (المهتم بالجمال)؛ نجد أن الأول يهتم بتفحُّص العمل المُعطَى من خلال علاقته بالأفعال الأخرى وتأثيره فيها، بينما يغرق الآخر نفسه في التجربة المباشرة، أي العمل ذاته. وبينما تصرُّ الأخلاق على عدم انتهاك حرمة الإنسان وتؤكد على الجانب الكمِّي للحياة، نجد أنَّ الفنَّ يؤكد على قدسية التجربة وخصوصيتها، وعلى الحقيقة الكيفية للعمل، ويعطي أهميةً للجزء تكافئ أهمية الكل ضمن العمل (2).

ونجد الذين يؤكدون على أن الفن ليس موضوعًا للتنظيم الأخلاقي يرون واضعي الأخلاق الصارمين عاجزين عن تذوُّق الفن جماليا، وأن الرقابة على الفن ستحدث خسارةً لا تُعوَّض في القيم المحسوسة للمتعة الجمالية، وهي ضارَّةٌ بالفنان نفسه كثيرًا؛ إذ سيُعاق نمو شخصيته إذا كَبَتَ أفكاره الإبداعية وحددها (1).

وعلى الجانب الآخر؛ يرى الأخلاقيون أن خصومهم أشد إغراقًا في الخيال وابتعادًا عن الواقعية من أن يعترفوا بالتأثيرات الملموسة للفن في الحياة البشرية، فبرأيهم؛ فإن الإشراف الأخلاقي على الحياة يشمل جميع النظم الاجتماعية الكبرى كالزواج والحياة الأسريَّة وأحوال العمل والنظام التعليمي، وجميعها تخضع لقدرٍ معينٍ -على الأقل- من الإشراف الأخلاقي، وإذن؛ فلم لا يخضع الفن بدوره؟ ولماذا يكون له امتيازٌ خاصٌّ لا يناله أي نظامٍ آخر؟ (1).

صلة الفن بالأخلاق:

في المجتمع المعاصر؛ نجد أن الفن وموضوعاته أصبحت نشاطًا جانبيًا إلى حدٍّ ما، ويمكن تجاوزه دون الخوف من عواقب غيابه، ذلك لأن تأثيره في حياتنا بسيطٌ مقارنةً بالتأثيرات السياسية والاقتصادية والدينية والقومية وغيرها، فنحن لا نتحدث عادةً عن الواجبات الفنية والجمالية كما نتحدث عن الواجبات المتعلقة بانتماء الفرد إلى أسرةٍ أو عقيدةٍ أو أمة؛ فإذا قلنا: "ينبغي أن تشاهد المسرحية"؛ فنحن لا نعتقد أن هذا استخدامٌ أخلاقيٌّ صارمٌ للِّفظ ((ينبغي)) بعكس ما يحمله اللَّفظ في جملة ((ينبغي أن تقول الصدق))، والجدير بالذكر أن ارتباطنا بالمفاهيم الأخلاقية الآن أقوى من السابق؛ فنحن نفهم الآن النُّظم الأخلاقية للحضارات الأخرى وأسباب تمسك الناس بها (1).

أما في الحضارات القديمة، كالحضارة المصرية؛ فقد كانت السلطة تخشى من التغيير بالفن لمعرفتها ما يتبعه من تأثير، فكان الفن -رسميا- شعائريًا بمعنى الكلمة، وكانت التقاليد عن الفن صارمةً وتعمل وفقًا لتوجيهاتٍ ملكيةٍ وكهنوتيةٍ تلتزم بقواعدَ دقيقة -على الرغم من إنتاجها أعمالًا رائعة- تكبِّل الفنان وتجعل دوره ثانويًا مما جعل دور الفنان يماثل دور الصانع (2).

وفي الحضارة الإغريقية؛ كان لـ"سقراطَ - 470 ق.م - 399 ق.م Socrates" وجهة نظرٍ لافتةٍ من حيث ربط مفهوم الجمال بمفهوم المنفعة بأشكالها (والأخلاقية إحداها)، فيرى أن جميع الأشياء النافعة هي جميلةٌ وخيِّرةٌ ما دامت تمثِّل موضوعاتٍ ملائمةً وصالحةً للبشر، وفي ذلك الوقت كانت الفنون تُؤخَذ بمأخذ الجِدِّ الشديد، وكانت قوةً اجتماعيةً كبرى، فنجد أن الأدب والرقص والموسيقا مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة والتعليم، وللفن قدرته العالية على منحنا اللذة، وهنا تكمن خطورته بحسب رأي "أفلاطون - 427 ق.م - 347 ق.م Plato"، لأن استجابة الناس له قوية، ولأن التأثير اللاحق للتجربة الجمالية والمواضيع الفنية سيطال بقية جوانب الحياة وسيؤثر في المجتمع والأفراد لاسيما الأطفال، فيقترح في كتابه (الجمهورية - Republic) برنامجًا لتنظيم الفن يبلغ من القسوة والصرامة أشد ما بلغه أي برنامج، فهو يعدُّ أن أية وسيلةٍ فنيةٍ لا تُعدُّ صالحةً إلا إذا كانت ذات أثرٍ أخلاقيٍّ إيجابيٍّ واضح، ومنه يفرض قيودًا قاسيةً على التذوق الجمالي ويسلب الفنانين قيمهم -بحسب آرائهم- وذلك باسم الأخلاق ومصالح الدولة. فمثلا: يؤمن "أفلاطون" أن الموسيقا تترك انطباعها في النفس، لذلك لا يعترف إلا بالإيقاعات الملائمة لحياة الشجاعة وضبط النفس، لتبقى انفعالات المجتمع خاضعةً للعقل والمنطق (1,2).

ومن هنا نرى أن تفسير الفن قديمًا كان ينهض على أسسٍ غير (إستاطيقية - Aesthetics)؛ فقد كان يُبجَّل من أجل منفعته الاجتماعية أو لأنه يبث في النفوس معتقداتٍ دينية، أو لأنه يجعل الناس أفضل من الوجهة الأخلاقية، ولذلك كانت الأحكام على الأعمال الأدبية واللوحات والموسيقا غالبًا مبنيَّةً على أساس القيمة الأخلاقية للنتاج الفني والأدبي (2).

الفن لأجل الفن: 

يقدم الناقد الفني "كليف بيل - 1881 - 1964 Clive Bell" ردًا على الجدل القائم بين الفن والأخلاق ويقول: "إن الفن فوق الأخلاق، أو الأصح أن نقول إن كل فنٍّ أخلاقي، لأن الأعمال الفنية وسيلةٌ مباشرةٌ للخير، فبمجرد أن نحكم على شيءٍ بأنه عملٌ فنيٌّ نكون قد حكمنا عليه بأنه ذو أهميةٍ قصوى من الوجهة الأخلاقية ووضعناه بعيدًا عن يد الداعية الأخلاقي، إن الفن خيرٌ لأنه يعلو بنا إلى حالة النشوة أفضل بمراحل من كل ما يستطيع الداعية الأخلاقي بليدُ الحس أن يتصوره، وفي هذا وحده الكفاية".

ويعلن شعارُ((الفن لأجل الفن)) تحرُّرَ الفن من النزعة الإرشادية ويمثل احتجاجًا على أولئك الذين يجعلون الفن خادمًا لهدفٍ آخر، ويؤكد على أن العمل الفني يوجد لكي يُقدَّر لذاته فقط، لا لأي شيءٍ آخر (1).

وبذلك نرى أن مسألة الفن والأخلاق مسألةٌ جدليةٌ بامتياز، وكانت محط تفكيرٍ وتحليلٍ على مر الوقت، وأنه رغم الانتقادات التي يمكن أن تُوجَّه إلى النظريات الأخلاقية؛ فإن الفن – في رأي بعضهم- على الرغم من ذلك يجعلنا أناسًا أفضل، ويهذِّب مشاعرنا ويجعلنا أقل عنفًا وأكثر إنسانية. وأحد المسائل المهمة عن هذا الجدل، هي عمومية الأخلاق وخصوصية الفن، فمثلا: إذا قلنا: "إن لوحةً ما ممتعةٌ من الناحية الجمالية أو مهمةٌ أو لافتةٌ للنظر"؛ فنحن لسنا ملزمين بإصدار الحكم نفسه بشأن أي عملٍ مماثلٍ ذي صلة، فالأعمال الفنية فريدةٌ بالضرورة، والفن نفسه يصر على الاستقلال الذاتي لكل تجربةٍ خاصة قد تصدر في بعض الأحيان أحكامًا جماليةً متماثلةً بشأن عملٍ مشابهٍ ذي صلة، لكن الأمر ليس إلزاميًا منطقيا، لأن الأحكام الجمالية ليست قابلةً للتعميم (2,3).

بينما أحكامنا الأخلاقية اليومية قابلةٌ للتعميم، ونحن ملتزمون منطقيًا بإصدار أحكامٍ مماثلةٍ على الحالات المتشابهة ذات الصلة، وإذا رفضنا إصدار الحكم الأخلاقي نفسه على حالتين متشابهتين بوثوق، فإما لأن آراءنا الأخلاقية تغيرت بين دراسة الحالة الأولى وفحص الحالة الثانية، وإما ببساطةٍ لأن الحكم غير عقلانيٍّ ونحن بصفتنا حكامًا لسنا منطقيين (3).

وبعد استعراضنا للآراء والتحليلات السابقة، نستنتج أن الفن وعلم الأخلاق يبحثان في خصائصَ مختلفةٍ للموضوع الفني، وليس من المبالغة القول إنهما يتحدثان عن شيئين مختلفين.

والمشكلة بأسرها تنحصر في بحث حقوق الأخلاق وكذلك حقوق الفن، وفي وضع كلٍّ منهما مقابل الآخر وإعطائه حقه، لا في ترك أحدهما يطغى ببساطةٍ على الاخر (1).

المصادر:

1-ستولنيتز، جيروم. (2015). النقد الفني، دراسة جمالية. ترجمة: زكريا، فؤاد. (ط3) الإسكندرية: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر. ص499-542

2-الصباغ، رمضان. (2003). جماليات الفن الإطار الأخلاقي والاجتماعي. (ط1) الإسكندرية: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر. ص 36, 41-42 ,49-52

3- Wilkerson T. Uniqueness in Art and Morals. Philosophy [Internet]. 1983 [cited 15 December 2020];58(225):303-313. Available from: هنا