العمارة والتشييد > التصميم المعماري

جائحة (COVID-19) ومستقبل الفراغات المكتبية

يمكنكم الاستماع إلى العمل عبر الرابط:

تؤثر الهندسة المعمارية والتخطيط العمراني في حياة الأفراد والمجتمعات لذلك يمكن أن يساهم هذان الاختصاصان في دعم الإجراءات التي تتخذها الحكومات والسلطات من أجل مكافحة الأوبئة (1).

ويمكن أن يعزى التوجه إلى النقاء في التصاميم الحديثة جزئيًّا إلى مرض السل؛ إذ صُمِّمت المباني بحجوم بسيطة ومواد حديثة مع الابتعاد عن الزخرفة لتظهر البيئة نقيةً من الأمراض والملوثات ماديًّا ومعنويًّا، وقد أولى المهندسون أهميةً كبيرةً لدور الهواء النقي والضوء الطبيعي والطبيعة المحيطة أيضًا، لذلك تضمَّنت هذه المباني نوافذ كبيرة وشرفات وأسطح مستوية تمنع تراكم الغبار، إضافةً إلى استعمال طلاء أبيض يعكس النظافة (2).

واليوم بعد انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد ظهرت تغيرات كبيرة في اختيار المنازل ونظرتنا إلى الفراغات المعيشية لتصبح مكانًا متكاملًا للمعيشة والعمل حيث تتداخل أوقات الراحة وأوقات الإنتاج (1).

ولكن ما التغييرات التي ستطرأ على فراغات العمل المكتبية؟

أشارت منظمة الصحة العالمية إلى أنَّ خطر الإصابة بفيروس (COVID-19) يعتمد كثيرًا على احتمالية الاقتراب من الأشخاص المصابين بهذا المرض بما يقل عن متر واحد، وخاصةً عن طريق الرذاذ التنفسي أو ملامسة الأشياء والأسطح الملوثة بهذا الفيروس.

لذلك أوصت منظمة الصحة العالمية بمجموعةٍ من التدابير الوقائية للحد من انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد (COVID-19) في أماكن العمل، ونذكر منها: 

- غسل اليدين بالماء والصابون أو التعقيم بالكحول بانتظام، وخاصةً بعد ملامسة أحد الأشخاص أو الأسطح التي قد تكون ملوثة. 

- وضع مرافق تعقيم اليدين في مكانٍ واضح في فراغ العمل، لتكون متاحةً لكل الأشخاص الموجودين في هذا المكان.

- ارتداء الكمامات والالتزام بإرشادات استعمالهم والتخلص منهم.

- إبقاء مسافة كافية -1 متر على الأقل- بين الأشخاص في مكان العمل، وتجنب الاتصال الجسدي.

- تقليص الاجتماعات الشخصية والاستعاضة عنها بوسائل التواصل الافتراضية، والاعتماد عليها لتسيير أمور العمل من المنزل إن أمكن ذلك.

- التزام العامل أو الموظف الذي تظهر عليه أعراض هذا المرض بالحجر الصحي في المنزل، ووضع خطط طارئة من قبل صاحب العمل لكيفية التعامل مع حالات الإصابة بين الموظفين في أثناء العمل (3).

أدى كثير من هذه التدابير الوقائية وخاصةً ما يتعلق بقواعد التباعد الاجتماعي إلى تغيُّراتٍ ملحوظة في العمل والمعيشة؛ إذ سبَّب العمل من المنزل واستعمال وسائل التواصل الافتراضية إعادة النظر في كثيرٍ من الطرائق المتَّبعة في البناء والتصميم، وخصوصًا تصميم وبناء مكاتب العمل ومقرَّات الشركات (2).

فقد ركَّز تصميم مكاتب العمل قبل (COVID-19) على دمج مبدأي التعاون والخصوصية معًا للموظفين عن طريق ما يُعرف بأنموذج "المكاتب المرتكزة على تنوع الأنشطة"؛ إذ يوفِّر هذا الأنموذج مكانًا لاجتماعات فريق العمل ومكانًا للاستراحة والترفيه، إضافةً إلى بعض المكاتب الفردية التي تساعد الموظفين على التركيز في عملهم وتوفِّر لهم الخصوصية اللازمة عند الضرورة، ويعزِّز هذا الأنموذج في الوقت نفسه روح التعاون بين الموظفين عن طريق مشاركاتهم بأنشطةٍ مختلفة، ممَّا يسهم في خلق جوِّ عملٍ إبداعيٍّ وحرفي (4).

أمَّا في مرحلة ما بعد (COVID-19) -مع التحول إلى العمل من المنازل والذي لن يكون الخيار الوحيد- فسيصبح من الضروري تعديل فراغات المكاتب؛ إذ قد تستغني الشركات عن مساحاتٍ كبيرةٍ من مكاتبها إضافةً إلى تقليص عدد الموظفين، ممَّا سينعكس سلبًا على زيادة تكلفة بناء ناطحات السحاب والأبنية المرتفعة، لا سيِّما مع تجنُّب الناس استعمال المصاعد. وسيزداد الاعتماد على تقنية الأشعة فوق البنفسجية لتعقيم الأسطح وغرف الاجتماعات ليلًا بسبب فاعليتها في القضاء على الجراثيم، وستشهد العمارة أيضًا اعتمادًا على الذكاء الصنعي وتقنيات التعرف إلى الوجه والصوت الأوتوماتيكية التي ستمكِّن الإنسان من إنجاز مهماتٍ عدّة دون الحاجة إلى لمس الأسطح؛ كطلب المصعد الكهربائي أو فتح الأبواب دون الحاجة إلى لمس الأزرار والمفاتيح والاعتماد على الأوامر الصوتية فقط (2).

ومن جهةٍ أخرى، يمكن الاعتماد على العلوم الاجتماعية للتنبؤ بالشكل المستقبلي لمكاتب العمل وتبعات هذا التغير الجذري بالتصميم الداخلي لمكاتب العمل؛ إذ يربط علماء الإثنولوجيا -علم وصف ثقافات الشعوب وعاداتهم- بين تصور الإنسان لمحيطي العمل والمعيشة وبين نمط المهنة المزاوَلَة، فيصنِّفون المهن إلى ثلاثة أنماط؛ نمط العمل الحر ونمط العمل المدفوع الأجر ونمط العمل الموجَّه والمخطَّط له مسبقًا. وكلُّ نمطٍ منهم مرتبطٌ بتصورٍ مختلف عن مكان السكن والمعيشة؛ إذ يتضمَّن السكن وسائل الإنتاج لأصحاب المهن الحرة والتي يختلط فيها وقت العمل مع وقت الفراغ، أما منزل أصحاب المهن مدفوعة الأجر فيضمُّ وظائف راحة وترفيه في المقام الأول، على عكس أصحاب المهن المخطَّط لها مسبقًا الذي يمثِّل المنزل بالنسبة لهم انعكاسًا للارتقاء الشخصي والمكانة الاجتماعية والتجارب الشخصية. والتوزيع الفراغي لبيئة العمل والسكن في مرحلة ما بعد جائحة (COVID-19) يجب أن ينظَر إليه بوصفه منتجًا لقواعد التباعد الاجتماعي، ولوسائط التواصل الرقمية دورٌ بالغ الأهمية فيه، ممَّا يتطلَّب التكيُّف والتأقلم مع المعايير والخصائص الجديدة لمفهومي السكن والعمل الناتجة عن التغير الكبير لهذين المفهومين (1).

ولكن يبقى السؤال الأهم؛ ماهي تبعات هذا التغيُّر الجذري في تصميم مكاتب العمل وعواقبه على صحة الموظفين الجسدية والنفسية؟ وإلى أية درجة يمكن أن يكون الموظفون مستعدون للتكيف مع هذا التغيُّر؟ وما مصير الشركات غير القادرة على التكيف مع هذا التغيُّر وأخذه بالحسبان؟

تفتح هذه الأسئلة وغيرها آفاقًا جديدةً للأبحاث والدراسات العلمية لباحثي الهندسة المعمارية والتصميم الداخلي في المستقبل القريب لتطوير فراغات العمل والمعيشة والاستجابة للتغيرات الطارئة. 

المصادر:

1. Salama A. Coronavirus questions that will not go away: interrogating urban and socio-spatial implications of COVID-19 measures. Emerald Open Research [Internet]. 2020 [cited 23 October 2020];2(14). Available from: هنا

2. Megahed N, Ghoneim E. Antivirus-built environment: Lessons learned from Covid-19 pandemic. Sustainable Cities and Society [Internet]. 2020 [cited 23 October 2020];61:1-9. Available from: هنا

3. World Health Organization. Considerations for public health and social measures in the workplace in the context of COVID-19 [Internet]. World Health Organization; 2020. Available from: هنا

4. Zoltán E. Office spaces for more innovation and space efficiency. Pollack Periodica [Internet]. 2014 [cited 23 October 2020];9(2):67-76. Available from: هنا