الهندسة والآليات > الالكترونيات

الأعصاب الصِّناعيَّة

على الرّغم من معرفتنا شبه الشّاملة لكيفية عمل الجهاز العصبي عند الإنسان إلّا أننا ما زلنا غير قادرين على إنشاء نظام إلكتروني مماثل سواء من حيث آلية عمل الدماغ البشري أو من حيث فعالية النّقل العصبي، في هذا المقال سنتناول آخر الاكتشافات التي تجعلنا على بُعد خطوات صغيرة من تحقيق قفزة هائلة في صناعة الأعصاب الصناعية. 

تمكّن علماء من جامعتي تكساس Texas A&M University و ستانفورد Stanford University في الولايات المتحدة الأمريكية بالاشتراك مع مخابر هيوليت باكارد Hewlett Packard labs من تكوين أجهزة نانوية جديدة تعمل بنحو شبه مطابق للخلية العصبية، وأظهروا إمكانية ربط هذه الخلايا العصبية الصّناعية ضمن شبكات معقّدة قادرة على حلّ المشاكل بطريقة شبيهة بعمل الدّماغ.(1)

يُعدُّ هذا الجهاز هو أول محاولة ناجحة لمحاكاة الأعصاب عن طريق جهاز نانوي وحيد، إذ كان أغلب الاعتماد في السّابق على الترانزستورات في بناء أجهزة تحاكي الأعصاب، لكن الأجهزة الرقمية التي تعتمد على الترانزستورات على الرّغم من تطوّرها السّريع والهائل خلال السّنوات الماضية، إلاّ أن هذا التطوّر وصل إلى حدّ يصعب تجاوزه من ناحية تقليل حجم هذه الأجهزة، بالإضافة إلى كونها تواجه مشاكل في إيجاد الحلول الأفضل عندما تُقدّم إليها كمية كبيرة من البيانات.(1)

اتبع العلماء مبدأ محاكاة آلية عمل الدّماغ، بسبب قدرته على حلّ المشاكل التي تصعب على الأجهزة الرقمية، بالإضافة إلى استهلاكه كميات طاقة أقل بكثير من الأجهزة الرقمية(1)، وتأتي هذه القدرة من آلية تواصل العصبونات فيما بينها، إذ تعتمد العصبونات في التواصل على نبضات كهربائية تسمى النبضات العصبية (spikes)، إضافة إلى ذلك تستخدم هذه النبضات لمعالجة المعلومات أو القيام بالعمليات المختلفة ضمن الشبكة العصبية للدماغ، فعند توليد نبضة ضمن عصب ما يقوم هذا العصب بطرح مواد كيميائية ضمن التشابكات العصبية تدعى هذه المواد بالنواقل العصبية، تعمل هذه النواقل على تنبيه العصبونات المجاورة، وعن طريق هذه الآلية تتواصل مع بقية العصبونات، يظهر الشكل الآتي آلية طرح المواد الكيميائية ضمن التشابكات العصبية :(2) 

 

تبعًا لهذه العملية يستقبل العصبون المئات من إشارات الدخل، إلاّ أنّه لا يصبح فعالًا إلاّ عندما تصل قيم هذه الإشارات إلى قيمة حدّية معينة(2)، وبنحو مشابه لمبدأ عمل العصبون، قام العلماء بتجميع جهاز صنعي نانوي يتكون من عدة طبقات من مواد لا عضوية،إذ كل طبقة تقوم بوظيفة محددة، وإن الطبقة الرئيسية لهذا الجهاز هي طبقة صغيرة من مركب ثاني أكسيد النيوبيوم NbO2، عند تعرّض هذه الطبقة لجهد منخفض تبدأ درجة حرارتها بالارتفاع، وعندما تصل إلى قيمة حرجة يتحول أكسيد النيوبيوم من عازل إلى ناقل كهربائي يبدأ بتمرير التيار الكهربائي حتى تنخفض درجة حرارته فيعود أكسيد النيوبيوم إلى حالته العازلة للكهرباء، عملية التحول هذه من ناقل إلى عازل وبالعكس وبنحو مستمر مكّنت هذه الجهاز من توليد نبضات من التيار مشابهة للنبضات التي تتولد في الأعصاب، وعن طريق تغيير قيم الجهد المطبّقة حصل العلماء على عدة أشكال من النبضات والتفاعلات المشابهة للأعصاب مثل النبضات المستمرة، الاندفاعية والفوضوية(1). 

اعتمد الباحثون بداية للوصول لهذه الأعصاب الصناعية على البحث في إمكانية استخدام memristor* نشط موضعياً (محلياً)، بوصفه أساسًا لمعالجة منخفض الطاقة خالي من الترانزستورات(3)، حلّلوا أولًا الانتقال المستحث حراريًا من الدرجة الأولى من حالة عازل Mott إلى حالة عالية التوصيل ضمن عائلة من أكاسيد المعادن الانتقالية المرتبطة بالإلكترونات مثل VO2 و NbO 2.  

أظهرت خصائص الجهد - التيار لجهاز بسيط ذو نقطة تقاطع  يحتوي على طبقة رقيقة من مثل هذا الأوكسيد محصور بين قطبين معدنيين مقاومة تفاضلية سالبة negative differential resistance-NDR من النمط 'S'  ناتجة عن مبدأ التسخين الذاتي لجول عندما تكون درجة الحرارة المحيطة أقل من انتقال العازل المعدني metal-insulator transition-MIT.

عرضت هذه الأجهزة خاصية النشاط الموضعي (المحلي)، وبسبب ال (NDR) كانت قادرة على تقديم الطاقة في دارة أي عملية تحويل طاقة التيار المستمر DC إلى طاقة تيار متناوب AC ضمن مدى انحياز محدود(3).

إضافة إلى ذلك استطاع العلماء استخدام شبكات من هذه الأعصاب الصّناعية لحل مشاكل صغيرة مشابهة للمشاكل التي تواجه الإنسان - التي تعدُ معقدة حتى بالنسبة للأجهزة الرقمية المعقدة - بنحو ناجح، إذ تمكنت هذه الشبكات من تحديد الطفرات الممكنة ضمن فيروس(1).

بداية قام الباحثون بتوصيل 24 من هذه الأجهزة النانوية معًا في شبكة مستوحاة من الروابط بين قشرة الدماغ والمهاد، ثم استخدموا هذه الشبكة لحل مشكلة نسخة مبسّطة من مشكلة إعادة بناء أشباه الأنواع الفيروسية، إذ  ُحدِد الطفرات المختلفة لفيروس دون الحاجة إلى جينوم مرجعي، إذ قدّموا للشبكة أجزاء صغيرة من الجين ثم برمجوا قوة الارتباطات بين هذه الأعصاب الصناعية، وبعد بضعة أجزاء من الثانية (مقدّرة بالميكروثانية) استقرت الشبكة ضمن حالة تمثل جينوم سلالة متحولة(1).

   

والخطوة القادمة التي يعمل عليها الباحثون هو زيادة عدد المشاكل التي تستطيع هذه الأجهزة حلها عن طريق استخدام أنماط مختلفة من النبضات المرسلة بين هذه الأجهزة وإضافة خصائص لهذه الشبكة مثل الذاكرة وقابلية التعلم(1).

مع ظهور هذا النمط من الأجهزة قد نشهد انتقالًا ضخمًا في المجال التقني من المعالجات التي تعتمد على الترانزستورات إلى معالجات تستخدم هذه الأعصاب الصّناعية، لا تزال هذه الأجهزة تحت الاختبار لكنها ستغير آلية معالجة المعلومات التي نعرفها حاليًا.

هامش : 

*: عبارة عن مقاومة كهربائية مع ذاكرة، تمتلك مقاومة متغيرة تستخدم بوصفها ذاكرة للمعلومات(التيار المار عبرها)، وتأتي التسمية من جمع الكلمتين resistor & memory معا.(4) 

المصادر:

1-New brain cell-like nanodevices work together to identify mutations in viruses [Internet]. Engineering.tamu.edu. 2020 [cited 17 November 2020]. Available from: هنا  

2-How do neurons work? [Internet]. Qbi.uq.edu.au. 2020 [cited 17 November 2020]. Available from: هنا 

3-Stan Williams - Mott Memristors, Neuristors and Turing Complete Computing with an Electronic Action Potential | UCSB Computer Science [Internet]. Cs.ucsb.edu. 2020 [cited 17 November 2020]. Available from: هنا  

4-First programmable memristor computer aims to bring AI processing down from the cloud [Internet]. University of Michigan News. 2020 [cited 17 November 2020]. Available from: هنا