كتاب > روايات ومقالات

مراجعة كتاب (أرض البرتقال الحزين): حيث دائرة الحزن المفرغة

لا تخلو أيٌّ من مؤلفات غسان كنفاني من صور مأساة القضية الفلسطينية، وكتاب "أرض البرتقال الحزين" ليس استثناءً؛ إذ يضمُّ مجموعةَ قصص مختلفة الأبطال ومتشابهة الوجع والفكرة، ويُعدُّ من أصدق الكتب وأكثرها صراحةً، ويقدِّم لنا جرعةً هائلة من أعمق النقاشات مع الذات و الآخرين.

ونرى أولى هذه النقاشات في قصة (أبعد من الحدود) التي تبدأ بشابٍّ هارب يقتحم منزلَ ذاك الذي يحاول الهرب منه، ويتحدَّث معه بصيغة سيدي! ويلقي أمامه خطابًا طويلًا عن عملية تحوُّله إلى سلعة وأداة مُستغلَّة في كل خطابٍ في العالم؛ ولكن، ألا يتحوَّل القاطنين في هذه البقعة كلهم ليلائموا القالب المفروض عليهم؟

" وقلت لنفسي: لا بد أن أكون موجوداً رغم كل شيء. لقد حاولوا أن يذوبوني كقطعة سكر في فنجان شاي ساخن، وبذلوا، يشهد الله، جهداً عجيباً من أجل ذلك.. ولكنني ما أزال موجوداً رغم كل شيء."

فهل أدَّى الخطاب إلى نتيجةٍ ما؟ ربما نعم، وربما لا؛ ولكن، كان للشاب جرأةُ البوح على الأقل.

أمَّا في قصة (الأفق وراء البوابة) تتكاثف المشاعر وتتداخل الأزمنة، فالبطلُ عالقٌ في الماضي، فهناك توجد شقيقته، ونجده متأملًا في الأفق الضبابي خلف البوابة حيث تُخبَّأ الحقائق.

ولكن، لابدَّ للحقيقة أن تزيل الضباب، حتى لو كان الكذب جميلًا يجعل كل شيء "بخير".

" لقد نمت الكذبة طيلة هذه السنوات العشر نمواً فظاً حتى إنه لم يجد مبرراً ليقول هذه الحقيقة مرة واحدة حاسمة وقاسية وربما قاتلة أيضاً."

ثمَّ ينقلنا الكاتب إلى القصة التي تليها، والتي تحمل عنوان (السلاح المحرم)؛ إذ تستبيح ضباعٌ دارَ أبي علي، وتُزهَق الأرواح من أجل بندقية.

أمَّا في القصة الآتية يعرض علينا غسان (ثلاثَ أوراق من فلسطين) من الرملة والطيرة وغزة، وما فيها من النهايات الفتوحة، وصراع الألم الممتزج بالأمل على البقاء، فلمن تكون الكلمة الأخيرة؟

"هذا الشعور الصغير يجب أن ينهض عملاقا في أعماقك… يجب أن يتضاخم، يجب أن تبحث عنه كي تجد نفسك…  هنا بين أنقاض الهزيمة البشعة."

ونصل لاحقًا إلى قصة (الأخضر والأحمر)؛ تلك القصة التي تحمل جوهر الحياة الأمل مُغلَّفًا بالموت السحيق.

وتمتلأ القصة بألفاظ قاتمة من قبيل الدماء والموت والعدم والمقاومة.

أمَّا بطلها فهو أسودٌ صغير، دودةٌ عاش في الظلال مُتمرِّدًا على الموت.

"أيها العملاق الممسوخ، يا عين ابيك المذبوح بالأظافر، لماذا لا تموت؟ لماذا لا تتوقف لحظة واحدة تحت تلك الأكوام من الاتربة فينطفئ الضوء الأبيض المعلق في صدرك؟ أتراك تدري بأن حياتك مرهونة بذلك التراكض الوحشي المذعور؟ أتراك تعرف بأنك لو توقفت لأغرقك مدّ الدم و لانتهيت؟ أيها الأسود الصغير التعس.. أيها الأسود الصغير التعس.. لماذا لا تموت؟"

ولكنَّ كنفاني لم يكن كاتبًا ينقل السوداوية وحدها؛ بل كان يرفقها بالسخرية والأمل في المقاومة، مقاومة الموت والعدم؛ إذ يخاطب في نهاية قصته ذلك الأسود الصغير المسحوق تحت الأقدام ويدعوه أن يرفض الموت ويصبح ندًّا.

" لقد نزفت عرقك و أذبت عضلك دون أن تطفئ تلك النقطة البيضاء المعلقة في صدرك كالقنديل.. مُتْ! ماذا بقي منك؟ تقول الكثير؟ نطقت؟ انفكت شفتاك عن أسنانك؟ لقد نزفت من العرق ما يصنع ألف رجل كبير.. يا عقدة الاصبع! أيّها المسخ، يا عين الشهيد.. لا تمت قبل أن تكون نداً.. لا تمت…"

فهل غسان يخاطبنا نحن القراء كذلك؟ نحن أيضًا لكلٍّ منا ندٌّ عليه أن يطيح به، ولا يجب أن نموت قبل أن نكون أندادًا.

أمَّا قصة (أرض البرتقال الحزين) فهي تلخيصٌ لواقع اللجوء، والتعامل مع الفقد والقدرة على ترك شخصٍ آخر يستبيح أرضَك وبلدك، لتصبحَ عقب ذلك لاجئًا في أرض غريبة، وكأنَّك إنسانٌ من الدرجة السابعة أو أدنى!

"وكانت تلتمع في عيني أبيك كل أشجار البرتقال التي تركها لليهود.. كل أشجار البرتقال النظيف التي اشتراها شجرة شجرة، كلها كانت ترتسم في وجهه... وترتسم لامعة في دموع لم يتمالكها أمام ضابط المخفر.. وعندما وصلنا صيدا، في العصر، صرنا لاجئين."

ثمَّ تطالعنا قصة (قتيل في الموصل) التي تحكي لنا عن الشاب (معروف) واصفةً أدَّق تفاصيل فكره، وكأنَّ غسان كان قادرًا على رؤية دواخله حيث الضوء والتيه والفلسفة والحكمة والتوق للحقيقة.

"اسمع يا فيلسوفي الصغير.. الإنسان يعيش ستين سنة في الغالب، أليس كذلك؟ يقضي نصفها في النوم.. بقي ثلاثون سنة.. اطرح عشر سنوات ما بين مرض وسفر وأكل وفراغ.. بقي عشرون.. إن نصف هذه العشرين قد مضت مع طفولة حمقاء ومدارس ابتدائية لقد بقيت عشر سنوات عشر سنوات فقط، أليست جديرة بأن يعيشها الإنسان بطمأنينة؟"

وينتهي الكتاب بقصةٍ عُنوِنَت بـ(لاشيء)، يسيطر فيها عنكبوتٌ على أفكار البطل وينسج شباكه حولها، فما الذي يمكن أن يزيح تلك الشبكة أو يميت ذلك العنكبوت؟

وختامًا، تُعدُّ مجموعة (أرض البرتقال الحزين) القصصية من أشهر مؤلفات غسان كنفاني وهي عمله الثاني القائم على تصوير القضية الفلسطينية كما هي دون تخفيف من وطأة البشاعة؛ إذ كانت كلماته صريحةً جذلة ذات وجع قد يصيب القارئ في صميم العقل والقلب ساجنًا إياهما في زوبعة لانهائية من الأفكار.

معلومات الكتاب: