كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية ضفاف الخطيئة، رشيق سليمان

هي طفلةٌ صغيرةٌ وضعت الحياة حولها سياجًا من (لاءاتٍ) لا تتجاسر أن تتعدَّاه، ولها أبٌ لا يعطيها حظها من الحياة ويستوفي منها أكثر ما تطيقه النفس، فإن طال عليها الليل قضته في البكاء والتحسر، وإن خرج عليها النهار صرفته في شؤون البيت ثمَّ الانزواء في غرفتها تحدِّث دميتها الصموت.

"تنهّدت بحرقة وتابعت: ليتني أي شيء، ليتني ورقة خريفية أسقطتها الريح، حتى الورقة لها الحرية في السقوط، أما أنا فلا حرية لي لأسير متراً واحداً وحدي.. ولا حتى لأسقط كورقة على غصنٍ داهمتها الريح في ليلة خريفية.. حدودي هذه الغرفة وخيالي... ضحكت بسخرية: خيالي الذي بدأ يضيق مداه."

وقد منعها أبوها من العلم وارتياد المدرسة، ومن التنزُّه وتمضية الوقت أيضًا، فإن راودتها أحلامٌ تواسيها بالحب وتبشِّرها بقدوم الفارس المخلِّص على صهوة جواد أيقظتها إصبع والدها يرفعها في وجهها صارخًا: لا للحب.

وعلى الرغم من أنَّ عزلتها هذه جعلتها تهاب الناس وتبالغ في الاحتراز منهم والاختلاط بهم، ولكنَّ شابًّا يعمل في مقهى قبالة شباك غرفتها نزع عنها تخوُّفها هذا وأهداها أملًا بالخلاص من هذا الوالد الشقي.

"وفي أقل من شهر كان الشاب الذي يعمل في المقهى المقابل لنافذتها قد أزاح عن روحها كل هم، وأهداها طبقاً من فرح عبر نظراتٍ قليلة من تحت لفوق، ومن ثمّ يختفي متّجهاً إلى مكانٍ ما بعد أن يغلق المقهى. البارحة استطاعت أن تنظر في عينيه مباشرةً، لكن حرارةً اجتاحت جسدها فأرجعت رأسها للوراء."

وتهرب الفتاة من أهلها إلى حيث تظن أنَّه النعيم المقيم، فتلتجئ إلى هذا الشاب (مطر)؛ الذي يوهمها أنَّها بلغت معه الأمان لتكتشف حقيقةً مُرَّة يخفيها، وهي أنَّه منافقٌ في حبه لها، وما هو إلا ضحيةٌ لأسرةٍ أخرى أشدُّ تفككًا، وأنَّه يضمر في قلبه حقدًا دفينًا لا يلبث أن ينفجر مع أول لقاء له بأنثى..

"تتذكر كيف قصفها كحيوانٍ تجرفه أهواؤه وتعصف به غرائزه، كيف أهان أنوثتها وكل النسوة بها. هو يعرف كيف يقطف وردةً لم تتفتّح بعد في حديقة الأنوثة.. وبعد أن يشمّها يعرف جيّداً كيف يدهسها بقدمين متّسختين كعقليته."

وهكذا بات حال المسكينة كالمستجير من الرمضاء بالنار.

ثمَّ تثمر هذه اللقاءات عن طفلةٍ بشعة الشكل دميمة المنظر لم يبتسم لها أبوها ولم يفرح بمجيئها؛ بل سرق عنها شالًا أسودًا مُطرَّزًا طرفه بوردةٍ حمراء كانت تلتحف به ثمَّ تركها وأمها ترتجفان في بيتٍ متهالكٍ ومضى.

"وقف عند الباب.. لم يجرؤ على النظر للوراء.. أسلم قدميه للريح وسط العاصفة، وعاصفةُ خوفٍ تجتاح داخله الخائف. كل ما استطاعه العملاق أن سرق غطاء طفلته وهرب... ولطالما هرب."

فتستغني الأم بالاكتساب من العمل خادمةً في بيوت الناس وتقتنع منهم بالقليل لتربي ابنتها التي أسمتها "ضفاف"، وهنا تبدأ فصول الحكاية؛ حكاية الفتاة "ضفاف" التي عاشت على ضفاف الطفولة بعد أن كانت على ضفاف الموت.

ويلقي الكاتب "رشيق سليمان" الضوء على مجتمع أضناه الجهل والتخلف، فخرجت منه وحوشٌ على هيئة البشر، فشخصيات الرواية ثنائياتٌ استحوذ عليهم العنف حتى صار الشرُّ فيهم طبعًا لا يمكنه التدارك اللهم إلا هذه الفتاة البريئة "ضفاف" التي جمعت النقيضين: قبح الوجه و جمال الأخلاق، وهي على طيبتها تجد في قبح الوجه دلائلَ الحسن والجمال:

"وفي ذات يومٍ، في المدرسة، اقترب منها طفلٌ وسألها بارتباك: ضفاف، ما هذه الأشياء على وجهك؟ لمَ وجهك ليس مثل وجوهنا نحن بقية الأطفال؟ قالت بثقة: هذه نجومٌ لم تسع السماء، فوضعها القمر في وجهي.."

وتلتقي "ضفاف" بشابٍ اسمه على اسم أبيها "مطر"، وقد أعجبها الاسم ورأت فيه غيثًا يسقي قلبها العطش، أرادته ملاذًا آمنًا لها ولندوبها بين التحديات والصعوبات كلها، والتي تنام وتفيق معها.

ومع تقادم الأيام يعود الشال الأسود ذو الوردة الحمراء الذي انتُزِع عنها وهي رضيعة ليربط بذكراه مبتدأ الحكاية بمنتهاها.

"تاهت بين حروف اسمه، ضمّت ميمه بقلبها الذي بدأ ينبض بها، انزلقت بفرحٍ على رائه وكأنّها أرجوحة بينما علّقت على طائه فستان فرحها المبلل بالدمع."

فهل يبتسم لها الزمان بعدما عبس في وجه أمها من قبل؟ هذا ما تكشفه الفصول الأخيرة من الرواية.

إنَّ الكاتب استخدم لغةً فصيحةً، وترصَّد لمقاصده الجُمل والتراكيب الأوفى للمعنى دون أن يبالغ في الديباجة اللغوية حتى لا يتشاغل القارئ بالنص عن الحكاية، وجعل الحوار الشخصي الداخلي يطغى على الحوار بين الشخصيات، وقد أثرى بروايته هذه المكتبة العربية بعملٍ يتناول مجتمع الظل قبيح العيوب الذي لم تطاله بعد يدُ الجبر والإصلاح.

رشيق عز الدين سليمان؛ كاتبٌ سوري وُلِد في منطقة الغاب/ حماة عام 1987، ودرس الأدب الإنجليزي في جامعة تشرين، وحصل منها على دبلوم تربوي، وصدر له هذا العام (2020) عن اتحاد الكتاب العرب مجموعة قصصية بعنوان "أريد شمسًا".

معلومات الكتاب: