العمارة والتشييد > التشييد

حكاية برج بيزا

يُعَدُّ برج بيزا المائل أحد المعالم السياحية الجاذبة للانتباه حول العالم، وفي الوقت نفسه تحديًا كبيرًا للمهندسيين واختصاصيي ميكانيك التربة للحفاظ على البرج واقفًا ومنعه من السقوط، أو تقليل درجة ميلانه قدر الإمكان.

تاريخ تشييد البرج:

بدأ العمل على البرج عام 1173 م، وتوقَّف عام 1178 م بعد اكتمال ثلث البرج لأسباب غير معروفة، لكن لو استمرَّ أكثر من ذلك حينها لواجهت الأساسات فشلًا غير محسوب في قدرة التحمل؛ إذ كان وزن البرج 90 مليون نيوتن. ثمَّ استؤنف عام 1272 م بعد توقف دام قرابة قرن، وبحلول ذلك الوقت زادت قوة الأرض بسبب التصلُّد (consolidation) تحت وزن الهيكل، واستمر العمل لست سنوات حتى توقَّف عام 1278 م، ولو استمرَّ البناء لكان البرج قد سقط. وفي العام 1360 م بدأ العمل في غرفة الجرس الذي اكتمل عام 1370 م (1).

ميلان البرج:

في مرحلة البناء الأولى (1173-1178) م التي تجاوز فيها البرج بارتفاعه الكورنيش الثالث بقليل، كان الميلان قليلًا نحو الشمال، وعند استئناف البناء عام 1272 م بدأ البرج يتحرك نحو الجنوب، وعند وصول عمليات البناء إلى الكورنيش السابع عام 1278 م كان البرج يميل قرابة 0.6 درجة باتجاه الجنوب، وفي التسعين عامًا التالية توقَّف البناء مرَّةً أخرى وزاد الميل إلى 1.6 درجة (1)، وازداد بحدَّةٍ في النصف الأول من القرن الرابع عشر، ولكن لم يثنِ ذلك المسؤولين عن المضي قدمًا في البناء، وعند قرب نهاية المشروع حاول العمَّال تصحيح الميلان عن طريق وضع الزاوية الثامنة من غرفة الجرس شمالًا (2).

في عام 1817 م عندما أجرى كريسي وتايلور (Cresy and Taylor) أول قياسٍ رأسي كان الميل 4.9 درجة، وفي الأعوام التالية حُفِرَ ممشى حول الأساس يُعرف باسم الكاتينو (catino) للكشف عن قاعدة البرج، فغرقت القاعدة في التربة بسبب هبوطٍ وصل إلى 3.5 م فتسبَّب ذلك بزيادة الميل بمقدار 0.5 درجة وتعريض البرج لخطرٍ حقيقي (1).

لم تبدأ المراقبة الدقيقة للبرج حتى عام 1911 م، وكشفت القياسات المجراة حينها عن حقيقةٍ مرعبة، وهي أنَّ ذروة البرج كانت تتحرَّك بمقدار 1.2 ملم في السنة، وفي عام 1935 م حاول المهندسون حل مشكلة المياه الزائدة تحت الأساسات عن طريق حفر شبكةٍ من الثقوب ذات الزاويا في الأساسات وملئها بحشوات إسمنتية، ممَّا أدى إلى تفاقم الوضع وزيادة ميلان البرج، ووصل في أواخر الثمانينيات إلى ميل 5.5 درجة، وفي الفترة الزمنية ذاتها انهار برج الجرس الذي بني بالمثل في مدينة بافيا شمال إيطاليا، ممَّا دفع المسؤولين إلى القلق من مصيرٍ مماثلٍ لبرج بيزا، فبدؤوا بتشكيل لجنةٍ لحماية البرج ودراسة طرق الحفاظ عليه، وأغلقوا النصب التذكاري أمام الجمهور (2).

انهيار برج بافيا عام 1989 م

ولنفهم أسباب ميلان البرج بدقة، يجب أن نتعرَّف تركيب التربة أسفل البرج والتي تتكون من 3 مناطق رئيسية موضحة في الشكل الآتي:

تركيب التربة أسفل البرج

المنطقة (A): يبلغ عمقها قرابة 10 أمتار وتتكون في المقام الأول من رواسب مصبات الأنهار.

المنطقة (B): تتكون من طين بحري يمتد إلى عمق يقارب 40 مترًا وينقسم إلى 4 طبقات؛ الطبقة العليا عبارة عن طين حساس ناعم يُعرف محليًّا باسم (Pancone) تقع تحتها طبقة وسيطة من الطين الأكثر صلابة، والتي بدورها تعلو طبقة الرمل، تتشكَّل الطبقة السفلى من هذه المنطقة من طين سفلي متماثل على جانبي البرج.

المنطقة (C): تتكون من رمل كثيف يمتد إلى عمقٍ كبير.

واستنادًا إلى أوصاف العينات واختبارات البيزوكون (piezocone)، تبدو المواد الواقعة في جنوب البرج أكثر طميًا وطينية من تلك الواقعة في الشمال، والطبقة الرملية العليا أرق محليًّا، ويُعتَقَد أنَّه السبب المحرض على الميل الجنوبي للبرج (1).

وقد عُثر على منسوب مياه في المنطقة (A) بعمق 1 إلى 2 م تحت سطح الأرض، ويُعَدُّ هذا المنسوب المتقلِّب الناتج عن العواصف الممطرة الموسمية التي تحدث بين أيلول (سبتمبر) وكانون الأول (ديسمبر) من كلِّ عام من الأسباب المحتملة للدوران التدريجي للبرج، وقد أكَّدت القياسات المجراة على مدى عدد من السنوات هذه النظرية.

ومن الجوانب التي تفسِّر حركة ميلان البرج:

جهود تحقيق استقرار البرج:

عمل المهندسون على تحقيق الاستقرار المؤقت للأساسات في النصف الثاني من عام 1993 م عن طريق تطبيق 600 طن من أوزان الرصاص على الجانب الشمالي من الأساسات عن طريق حلقةٍ خرسانيةٍ مصبوبةٍ حول قاعدة البرج وقابلة للإزالة، تسبَّب هذا بانخفاض الميل قرابة 0.01 درجة (1 دقيقة قوسية)، والأهم من ذلك تقليل عزم الانقلاب قرابة 15%. رُفِعت الحمولة إلى 900 طن في أيلول (سبتمبر) عام 1995 م من أجل التحكم في التحرك المتسارع نحو الجنوب والذي حدث في أثناء محاولة غير ناجحة لاستبدال الأوزان الرصاصية بمراسي أرضية (3).

وبعد ذلك بدأ البحث عن حلول دائمة من شأنها أن تؤدِّي إلى انخفاض طفيف بمقدار نصف درجة لتساهم في تخفيف الضغط على البناء. وجرى التحقُّق من طرائق عدَّة ممكنة لتخفيف الهبوط المتحكَّم به في الجانب الشمالي، وشملت التصريف تحت الجانب الشمالي باستخدام الآبار، والاندماج عن طريق التناضح الأرضي (electro-osmosis)، وزيادة الحمولة على الأرض عن طريق ألواح ضغط مثبتة بمراسي أرضية، وثبت عدم جدوى هذه الطرق.

في هذه المرحلة بدأت فكرة الحد قليلًا من ميل البرج عن طريق التنقيب تحت الجانب الشمالي، واستُخدمت هذه الطريقة بنجاح سابقًا للحد من الهبوط التفاضلي داخل كاتدرائية متروبوليتان في مكسيكو سيتي. وطُبِّقت هذه الطريقة عن طريق نماذج فيزيائية ثم رقميّة، وأخيرًا عن طريق تجربة واسعة النطاق.

من النتائج الرئيسية لهذه التجربة أنَّ استجابة البرج إيجابية دائمًا بشرط استخراج التربة من أسفل الأساس شمال الخط الحرج الواقع على بعد نصف نصف قطر (half a radius) من الحافة الشمالية للأساس بعيدًا عن الجانب المائل.

ووافقت اللجنة في آب (أغسطس) 1998 م على استخراج محدود للتربة من تحت البرج للمراقبة، واستُخرِجت أول عينة في 9 شباط (فبراير) 1999 م وعندما وصل الدوران باتجاه الشمال 0.02 درجة (80 ثانية قوسية) توقف استخراج التربة الأولي، واستمرَّ الدوران باتجاه الشمال بمعدل متناقص حتى تشرين الأول (أكتوبر) 1999 م.

وبعد نجاح التنقيب الأولي، وافقت اللجنة على استخراج التربة على كامل عرض القاعدة، وقرب نهاية أيار (مايو) عام 2000 م بدأت الإزالة التدريجية لسبائك الرصاص وأزيلت السبيكة الأخيرة من الحلقة الخرسانية بتاريخ 16 كانون الثاني (يناير) 2001 م (3).

أعمال التنقيب

نتيجةً لهذه الإجراءات، انخفض ميل الأساسات بمقدار 0.52 درجة (1880 ثانية قوسية) في منتصف العام 2002 م، وفي السنوات الست التالية استمرَّ البرج بالدوران نحو الشمال بمعدل منخفض، وفي الفترة من 2006 م إلى 2008 م انخفض معدل الدوران المتبقي شمالًا إلى أقل من 0.2 ثانية في السنة، وفي أيلول (سبتمبر) 2008 م استقر مركز الأساس عند قرابة 90 ملم، ويستمر بالاستقرار بمعدل يقل عن العامين الماضيين.

مع استمرار مراقبة البرج، يتساءل المجتمع العلمي ووسائل الإعلام عن سلوك البرج في المستقبل القريب، وبسبب تعقيد الظواهر المتحكمة ببنية التربة الفريدة من نوعها لا يمكن الحصول على إجابة أكيدة ولكن هناك سيناريوهان محتملان:

السيناريو المتفائل: توقُّف ظاهرة عدم الاستقرار المائل (Leaning instability) وتوقُّف الدوران المستمر باستثناء بعض الحركات البسيطة التي تسببها المياه الجوفية وتذبذباتها الموسمية التي كانت تؤدي إلى هذه الظاهرة.

السيناريو المتشائم: بعد التنقيب سيبقى البرج بلا حركة لفترةٍ تُقدَّر بعقود قليلة، متبوعًا باحتمال استئناف الدوران جنوبًا، وسيكون المعدل قليلًا في البداية لكنَّه سيزداد بعد ذلك وقد يقترب من 6 ثوان، ويصعب تقدير تلك الفترة بالنظر إلى أنَّ أعمال التثبيت أعادت البرج إلى حالته في القرن التاسع عشر، ويعتقد أن يعود إلى حالة عام 1993 بعد 200 عام على الأقل (3).

المصادر:

1. Burland J, Jamiolkowski M, Squeglia N, Viggiani C. The Leaning tower of Pisa. Geotechnics and Herritage [Internet]. CRC Press; 2013 [cited 20 May 2020]. p. 218-293. Available from: هنا

2. Garden H, HowStuffWorks, Science, Engineering, Engineering. Will the Leaning Tower of Pisa ever fall? [Internet]. HowStuffWorks. 2020 [cited 25 May 2020]. Available from: هنا

3. Burland J, Jamiolkowski, M, Viggiani, C. Leaning Tower of Pisa: Behaviour after Stabilization Operations. International Journal of Geoengineering Case Histories [Internet]. 2020 [cited 27 May 2020];1(3). Available from: هنا