كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (رجال في الشمس): هنا الكلمات تؤدي إلى حروق من الدرجة العاشرة

لم يخلُ أي عمل قدمه (غسان كنفاني) من رموز عن القضية الفلسطينية، فسلط الضوء على التشرد والتيه  وحرب الهويات، وحاكى الواقع الفلسطيني بتفاصيله  كلها وخاصة بعد عام النكبة.

فكانت صفحات هذا الكتاب أحد أبرز الأعمال التي صوَّرت هول الخذلان بعد الأمل لتبقى إرثًا منقولًا من جيل إلى جيل.

"تسير الأمور على نحو أفضل حين لا يقسم الناس بشرفهم."

تتحدث الرواية عن أربعة شبان أتوا من أجيال مختلفة، ولكنَّهم مشتركون بالماضي وذكريات ما قبل النكبة، بالإضافة إلى أحلامهم المستقبلية التي رسموها منتظرين لحظة عبروهم الحدود وهروبهم من تلك البقعة الجغرافية إلى الكويت حيث النفط وكثيرٌ كثيرٌ من العملات النقدية.

وكما هو متوقع من غسان كنفاني فقد ملأ الكتاب بالرموز والأحاديث التي تحتاج وقتًا من الزمن للوصول إلى الصورة الكاملة (أو كما تخيلها غسان)، فلم يبنِ كنفاني شخصيات القصة على دفعة واحدة؛ بل أعطى لكل شخصية فرصة الوصول إلى الكمال الروائي على حدة، فكانت كل شخصية تستنزف 100 صفحة استنزافًا كاملًا حتى تصل إلى الشكل المطلوب.

وأول شخصية عن أبي قيس العجوز العالق بين ذكريات الماضي وحواراته مع نفسه في الوقت الحاضر؛ إذ يتجسد حلمه في الخروج من نصف الغرفة التي يعيش فيها مع عائلته في المخيم، منتقلًا إلى مكان ملائم لحياة شخص اعتاد أن يعيش في وطن حيث لا مكان للتهجير والفقر والانتهاك، حياة تلائمه وعائلته بعد العناء الذي مرُّوا به كله، ولربما يستطيع بناء ذكريات وأحلام جديدة فيما تبقى له من العمر، فكان خيار الهرب مطروقًا بعدما داهمه الواقع بكل ما أوتي من شناعة إثر انتظاره العودة إلى أرض أشجار الزيتون خاصته فحسب.

"في السنوات العشر الماضية لم تفعل شيئًا سوى أن تنتظر... لقد احتجت إلى عشر سنوات كبيره جائعة كي تصدق انك فقدت شجراتك و بيتك و شبابك و قريتك كلها... في هذه السنوات الطويلة شق الناس طرقهم و أنت مقع ككلب عجوز في بيت حقير... ماذا تراك كنت تنتظر؟"

أما الشخصية الثانية فكانت مروان؛ الشاب الذي تشابهت حاله مع حال الشباب المهاجرة في هذا الزمن أو ذاك جميعًا، فهو شخصٌ دعته الحاجة إلى السفر من أجل إعالة أهله العالقين في البلاد بعد أن ضاقت عليهم الحال حدَّ الاختناق. 

"كان مشوشًا ولم يكن بوسعه أن يهتدي إلى أول طريق التساؤلات كي يبدأ!"

أما الشخصية الثالثة فكانت أسعد؛ المناضل السياسي الفارُّ إلى حيث العدالة التي سعى جاهدًا من أجلها.

وقد هرب أسعد آملًا أن يجد بعض الحظ في الحرية، ولكنَّه كان يراهن على حظوظه كلها بعد عبوره الحدود، ليصل إلى المكان المنشود حيث يمكنه التعبير عن رأيه بصراحة وشفافية تامتين ودون أيَّة قيود مفروضة عليه.  

"لم يكن أي واحد من الأربعة يرغب في مزيد من الحديث، ليس لأنّ التعب قد انهكهم فقط بل لأنّ كل واحد منهم غاص في أفكاره عميقا عميقا .. كانت السيارة الضخمة تشق الطريق بهم وبأحلامهم وبعائلاتهم ومطامحهم وآملالهم وبؤسهم ويأسهم وقوتهم وضعفهم وماضيهم ومستقبلهم .. كما لو أنها آخذة في نطح باب جبار لقدر جديد مجهول .. و كانت العيون كلها معلقة فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبال غير مرئي."

والشخصية الأخيرة هي -كما دعاها غسان- أبو الخيزران المهرب، وهو رمز الفساد والانتهازية التي قادت من وَضَع ثقته فيها إلى أبشع أنواع التهلكة؛ تلك الشخصية العاجزة جنسيًّا كعجز الانتهازيين في جَعْل الأمور أفضل بالنسبة إلى غيرهم؛ بل حتى يطلقون الأسئلة بعد كل شناعة يقومون بها لتبرير فجاعة تصرفهم!

إنَّه شخصٌ يرى في كل مصيبة وسيلةً للانتفاع منها؛ إذ قرَّر بعد تضحيته الأخيرة أن تكون سعادته فوق كل شيء،  وستكون لمصلحته الشخصية الكلمةُ العليا في اتخاذ أي قرار، متناسيًا مبادئه التي استخدمها فيما مضى، ثم أهملها تاركًا إياها ضحيةً للصدأ والعفونة.

"ولكن أية أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتباً لكل شيء في هذا الكون الملعون."

تُعدُّ رواية (رجال في الشمس) من أولى الأعمال الكاملة لغسان التي ناقشت التشرد وتضارب المشاعر بين البقاء والمُضي، وعدم الاستقرار و الضياع، ووصفت بدقة وموضوعية أفكارَ كل من سعى إلى خلاصه الشخصي ضاربًا أفكار البقاء في الأرض عرض الحائط.

ولم يطل كنفاني في الوصف أو السرد فكانت كلماته واضحة مباشرة إلى درجة أن تتَّسع معاناةَ شعب كامل في 100 صفحة! وكأنَّ لسان الحال يقول: لا يمكن تنميق المعاناة يجب أن تروى كما هي.

معلومات الكتاب:

العنوان: رجال في الشمس

المؤلِّف: غسان كنفاني

دار النشر: قبرص- منشورات الرمال

عدد الصفحات: 112