التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية

من قتل الاسكندر الأكبر

من قتل الاسكندر الأكبر؟

غروب شمس الحادي عشر من حزيران عام 323 ق.م في مدينة بابل أثقلت ظهر التاريخ بغياب خاصرة تاريخية تدعى الإسكندر الأكبر في عامه الثاني و الثلاثين، بعد أن غزا إمبراطورية تمتد من ألبانيا الحديثة إلى شرق باكستان.

السؤال الذي لا يحمل إجابة ناجحة حتى الآن ، من أو ماذا قتل الملك المقدوني ؟!

الآن نظريات جديدة تشعل نيران التساؤلات عن قضية من أقدم وأعمق القضايا في التاريخ،كحادثة وفاة الاسكندر..

أظهر الملك قوة عظيمة في حملاته عبر آسيا لمدة 12 سنة، معانياً من صعوبات شديدة وأدوار قتالية شاقة، فبدأ البعض بالتفكير به كآلهة.

في عام 325 ق.م حارب الإسكندر ضد جنود آسيا الجنوبية وأُصيب بسهم في إحدى رئتيه ولكن بعد ذلك بوقت قصير، قام بأطول رحلة يقوم بها جيشه، رحلة لمدة 60 يوم على طول الساحل في جنوب إيران.

عندما سقط الإسكندر بعد إصابته بمرض خطير بسبب هذه الضربة، توفي بعد سنتين، فكانت الصدمة كبيرة لجيشه المؤلف من 50 ألف جندي، كما أصيب جنوده بالحيرة حول من سيقود بعده ،حيث أنه لم يكن للإسكندر أي خطط عن الخلافة بعده ولم يكن هناك أي وريث شرعي مع العلم أن أحدهم كان سيولد بعد فترة قصيرة من وفاة الإسكندر.

إن الرحيل المفاجئ لمثل هذه الشخصية القيادية سيصبح بالتأكيد نقطة تحول كارثية، إنها بداية نصف قرن من عدم الاستقرار والصراع، والمعروفة اليوم بفترة حروب الخلفاء.

لم يصل المؤرخين القدماء إلى إتفاق عن أسباب وفاة الاسكندر ،فمنهم من قال أن المرض هو سبب الوفاة.

قام الباحث المتخصص في المقدونية القديمة يوجين بورزا في عام 1996م بالمشاركة في المجلس الطبي للتحقيق في جامعة ميريلاند، حيث توصلوا لتشخيص مرض حمى التيفوئيد.كما اقترح الملاريا والجدري وسرطان الدم وإدمان الكحول وعدوى من إصابته في الرئة والكآبة، حيث أن وفاة صديق الإسكندرالمقرب أصابته بالكآبة.ولكن بعض المؤرخين غير مستعدين لتحديد مرض معين أو حتى الاختيار فيما إذا كانت الوفاة بسبب مرض أو جريمة قتل.

بعد أن حالت الأبحاث التاريخية لطريق مسدود، وصل أتباع الإسكندر لأفكار جديدة، مدعمين بتقارير من علماء السموم وعلماء الطب الشرعي، ليعيدوا فتح قضية الاسكندر على أنها جريمة قتل.

اكتسبت فكرة اغتيال الاسكندر اهتماماً كبيرة عام 2004م بسبب الخاتمة في فيلم "الاسكندر" للمخرج أوليفر ستون، حيث أعلن جنرال الإسكندر الأول بطليميوس في هذا المشهد " الحقيقة أننا نحن من قتلناه بصمتنا " ثم أصيب بالذعر بعد تسجيل كلماته ودمر ما كتبه وكتب من جديد " مات بسبب مرضه وفي حالة ضعف".

هناك بعض الأدلة تقول حتى القادة الكبار لم يكونوا على استعداد للحاق به في أي مكان.

في الهند عام 325 ق.م في الطرف الشرقي لنهر اندوس، قام جيش الاسكندر باعتصام عندما أمروا بالسير شرقاً نحو نهر الغانج، حتى الضابط الأعلى شارك في ذلك التمرد، يعتبر المخرج أوليفر ستون هذا التمرد بداية مؤامرة لمحاولة القتل اللاحقة.

كان الاسكندر يخطط لحملة واسعة في الفترة التي توفي فيها.

يقول ستون" لا أصدق أن هؤلاء الرجال كانوا سيتبعونه إلى الجزيرة العربية وقرطاج".

حسب اعتقاد بعض العلماء تم تزوير الصحف الملكية، التي فقدت ولخصت في إصدارات مختلفة تعتبر الأكثر مصداقية في العالم، لجعل وفاة الإسكندر تبدو طبيعية.فالجدل حول الصحف الملكية أثر بشكل كبير على فهمنا لوفاة الاسكندر، لأن أريان وبلوتارخ (كاتبين يونانيين من الإبراطورية الرومانية) وصفوا هذا الحدث بشكل مختلف عن المصادر القديمة.

يقول هذان الكاتبان أن الاسكندر أصيب بحمى بعد حفلة شرب في منزل صديق له اسمه ميديوس وازدادت الحمى سوءاً على مدى 10 أو 12 يوماً مما أدى في النهاية لشلل الملك فمنعه من التحرك و الكلام. ولم يتمكن حتى من تحريك عينيه إلا لتوديع جنوده، وتوفي في اليوم التالي.

ولكن مجموعة متنوعة من الروايات ترسم صورة مختلفة جداً، وهذه الصورة التي اتبعها ستون في فيلم "الاسكندر"

في هذا الإصدار البديل من الرواية بدأ الاسكندر بالشعور بالألم في حفلة الشرب وليس بعدها.وبعد أن أنهى كأساً كبيراً من النبيذ، شعر باحساس طعن في ظهره بعد أن سقطت الكأس من يده وصرخ بصوت عالٍ. في هذه الرواية تم تسجيل مجموعة من الأعراض منها الألم الكبير والتشنجات والهذيان، لكنهم لا يقولون إلا القليل أو لا شيء عن الحمى.

ألم مثل الطعنة بعد احتساء كأس من النبيذ يشير بوضوح لاحتمال وجود سم في الكأس مما دفع بلوتارخ للكتابة في سيرته الذاتية عن الاسكندر، أن سبب الوفاة ليس تسمماً.

لمؤيدي سيناريو السم، هناك سؤال مهم "من سممه؟"

في الفيلم كان ستون حذراً بالإجابة عن هذا السؤال، في مشهد المأدبة تبادل الأصحاب نظرات قاتلة مظلمة تظهر أنهم يعلمون أن السم موجود في كأس الإسكندر، ولكن لا يوجد أي دليل في الفيلم كيف وضع السم في الكأس .

على النقيض من ذلك كان العديد من الكتَاب اليونانيين والرومان على يقين من الفاعل وكيف قام بوضع السم وأي سم استخدم. وأجمعوا جميعاً على أنه أنتيباتر، الجنرال الأول، الذي سلمه الإسكندر مسؤولية المنطقة المقدونية، ومسؤولية أولاده كاساندر و لولاس.

كان لأنتيباتر عدة أسباب تدفعه لقتل الإسكندر حيث أنه في ربيع عام 323 ق.م عزله الاسكندر من منصبوه ستدعاه إلى بابل، لم يذهب أنتيباتر وإنما ارسل كاساندر عوضاً عنه، وحسب عدة نظريات قديمة قام بإرسال مياه سامة معه جمعها من نهر ستيكس الأسطوري وبعد وصول كاساندر إلى بابل أعطى الماء لأخيه لولاس الذي وضع السم في كأس الملك.

العناصر الأساسية من هذه القصة هي نفسها في كل الروايات ولكن التفاصيل تختلف.

يذكر في بعض الإصدارات أن الفيلسوف أرسطو كان متأمراً حيث أنه كان صديق لأنتيباتر وفي روايات أخرى يقال أن ابن الإسكندر لولاس هو المتهم الوحيد في تسميم والده.

رفض المؤرخون قصة المياه المسممة وقالوا أنها حركة سياسية للإضرار بأنتيباتر وكاساندر كونهما المتنافسان على الخلافة بعد الإسكندر وكان لديهما أعداء كثر وخصوصاً أولمبياس، والدة الاسكندر. ربما فكرة مياه النهر اليوناني المسممة تبدوة سخيفة، فأعلن فريزر أن مياه النهر اليوناني لا تحتوي على أية سموم.

ولكن في إحدى المحاضرات في برشلونة عام 2010 المؤرخة مايور وأخصائي السموم أنتوينتي هايس أدلوا برأيهم في الموضوع بأن حجر الجير في جميع أنحاء مافرونيري يمكن أن يساعد على نمو بكتيريا قاتلة تسمى "calicheamicin"

اختبارات كيميائية تم التحضير لها من أجل معرفة ما إذا كانت هذه البكتيريا موجودة إلى يومنا هذا حيث يُعتقد أنه من الممكن أن تكون قد اختفت عقب هذه القرون الطويلة، اتفق مايور وهايس أن هذه البكتيريا من الممكن أن تسبب المرض العضال والوفاة ربما، مثلما حصل للاسكندر الكبير، بما في ذلك ارتفاع درجة الحرارة التي غالبا ما ينظر إليها على أنها دليل على الوفاة الطبيعية.

الأبحاث التي قام بها مايور وهايس ربما تفضي إلى نتيجة أن: الاسكندر الكبير قد قتل غيلة، على الرغم من أن الرواة أنفسهم توقفوا قليلا عند هذا الادعاء ولم يسهبوا فيه، حيث أنهم كانوا أكثر اهتماما بالأسطورة من سبب الوفاة بعينها. معظم الدراسات تشير إلى مادة شديدة السمّية هي ما جعلت أنتيباتر وأولاده مشتبها بهم في العالم القديم:

"رحلة كاسندر التي استمرت عدة أسابيع من أوروبا لبابل قبل أن تظهر الأعراض على الاسكندر قدمت صورة واضحة عن كيفية وصول تلك المادة الشديدة السمّية المعروفة بـ "ماء سايتكس" لربما قد تكون دُست في إحدى ولائم الإسكندر" (سيؤكد كاسندر لاحقا شكوك العالم القديم في أنه هو من دبر هذا الاغتيال حيث سيقوم لاحقا بإعدام أم الاسكندر وزوجته وابنه واغتصاب عرش مقدونيا) .

لقد أبدى الرواة اهتمامهم بأسطوريّة ماء السايتكس وذلك وفقت التخيلات الإغريقية، ذلك النهر الذي اعتُقد بأنه قادر على قتل كل من يشرب منه حتى الآلهة، جعلوه سلاحا ذكيا بين يدي أنتيباتر وأولاده كي يستخدموه. تضيف مايور في هذا السياق: "سم خطير كهذا سيضفي هالة من الألوهية على الإسكندر" ثم تردف قائلة: "إن سمّاً عاديا قد لا يفعل ذلك، حصرا مادة نادرة جدا ذات قوة أسطورية ستفي بالغرض لاغتيال الإسكندر"

إن هذا اللمعان التي تحمله أسطورة السم قد يساعد في إماطة اللثام عن حقيقة القصة وكسر الغموض. ولكن من الواضح أن مطابقة سموم العالم القديم مع الأعراض التي تبدت لدى الإسكندر متاحة علميا، لتمهد وبشكل متزايد طريقا ممتازا نحو فك رموز تلك الواقعة.

ثلاثة محققين قاموا بالاطلاع على القضية في السنوات الأخيرة، وليجمعوا بذلك ثلاثة فرضيات جديدة حول من قد يكون من المحتمل أنه نظم عملية الاغتيال وهذه الفرضيات هي: بطليموس أحد جنرالات الريادة في جيش الاسكندر، فمن المحتمل أنه استخدم الزرنيخ بالتعاون مع روكسان إحدى زوجات الاسكندر، أو أن زوجة الملك هي من فعل ذلك باستخدام الإستركنين، أوربما الأطباء هم من فعلوا ذلك من غير قصد في حادثة خلطوا فيها الخطأ باستخدام جذور الخربق المجففة.

آخر هذه النظريات ظهرت على يد النيوزلندي خبير السموم ليو شاب والمخبري الاسكتلندي جون جريف. عمل هذان الرجلان معا في فيلم وثائقي عام 2009 لعنوان "الموت الغامض للاسكندر الكبير" وانتهى شاب إلى خلاصة أن مسحوق الخربق البيضاء استخدمت كعقار طبي في العالم القديم على يد أطباء بلاد الإغريق ولكن ضمن نطاق محدود حيث أن الجرعات الكبيرة من الممكن أن تكون قاتلة، والتي وضعها الباحثان في الحسبان أن تكون هي سبب الأعراض التي بدت على االإسكندر الكبير. ثم مضى جريف في تخمينه بأن السم لم يتم دسه بواسطة قاتل أو جاني، وإنما عن طريق الخطأ قام الأطباء بإعطاء الإسكندر جرعة زائدة لشفائه، مما أودى بحياته دون شك وهو ما اتفق عليه أيضا شاب أيضا.

لكن ما قدمه كل من شاب وجريف لايمكن الاعتماد عليه فهو ليس تحليلا دقيقا، خصوصا أنه تمت دراسته بعض مضي 2300 سنة على الواقعة.

وفي عام 2004 قدم جراهم فيليبس نفس التحليل ولكن بنتيجة مختلفة إلى مركز لوس أنجليس: "جريمة الإسكندر الكبير في بابل والإستركنين هو السم المستخدم في عملية الاغتيال" وحاول فيليبس في تحليل هذا معرفة القاتل من خلال طرح تساؤلات مهمة "من كان قادرا على الوصول إلى الإستركنين" هذا النبات السام كان نادرا في المناطق التي امتد عليها طريق الاسكندر ويمكن أن يزرع حصرا في القمم المرتفعة في شبه القارة (باكستان حاليا) تلك المناطق لم يلحق بالاسكندر أي أحد من حاشيته فيها، ما أقصى من وجهة نظر فيليب كل المشتبه بهم المحتملين. إلا أن هناك احتمال آخر تناولها في تقريره وهو سيدة اسمها روكسان، حيث أنه شخص واحد فقط قادر على استعمال هذه الوسيلة وهي إحدى زوجات الملك الثلاث، حيث وقع الاسكندر في خلاف مع أولى زوجاته ، كما يفترض فيليبس، فتزوج بزوجتين أخريتين إحداهما روكسان وهن من قتلنه باستخدام مدية مغموسة بهذا السم، لكن هذه الرواية تفتقر إلى الأدلة.

وفي كتاب آخر نشر عام 2004 لبول دورتي بعنوان "وفات الاسكندر الكبير" أكد بأن الوفاة كانت بسبب الزرنيخ مستندا إلى علماء الكيمياء في القرن ال 19 حيث أن الزرنيخ وحرارة بابل ساهما معا في تحنيط جسم الاسكندر. حيث تروي الروايات أن جسم الاسكندر قد قاوم التحلل بفعل هذه المواد السامة التي حافظت على جسده، فقد دخل في 11 حزيران بغيبوبة عميقة ما لبث أن توفي بعدها، وتأخر المحنطون حتى وصلو بعد عدة أيام اعتقدوا أنه لا يزال على قيد الحياة بسبب هذه المواد التي حافظة على جسده بعيدا عن التحلل.

ويرى دورتي في كتابه أنه من دبر هذا الاغتيال هو بطليموس والذي حصد أفضل الغنائم بوفاة الاسكندر، فنزل في مصر الغنية وأسس لاحقا مملكة مستقلة وقوية استمرت لقرون وآخر ملوكها كليوبترا، وبالتالي فإن تخمين دورتي استند إلى حجة منطقية في اتهام بطليموس في ذلك.

ولا يستبعد أن يكون كل من زوجته روكسان وبطليموس وكل هيئة الأركان قد تآمروا على قتله، فقد أصبحوا يتعاموا مع رجل أصيب بجنون العظمة، فطموحه لم يعد يقف عند حد، فمن قرطاج إلى جزيرة العرب إلى ساحل البحر المتوسط كاملا، لقد كان يريد أن يحكم العالم كله، ما جعل خلفه فراغا كبيرا وضباطا وجدوا أنه أفضل مسوغ للتمرد والتخطيط للاغتيال.

ومع كل هذا الغموض الذي يكتنف قصة الاغتيال وتعدد الروايات، تبقى قصته حبيسة الدروب المسدودة، فتلك الروايات العديدة التي استند بعضها إلى الروايات الأسطورية وبعضها إلى الأساليب العلمية المفندة مخبريا إلا أن كل تلك الجهود ما كانت لتحل خيوط تلك المؤامرة، فمنهم من رفض مبدأ التسمم ومنهم من ذهب إلى أن الاسكندر الأكبر قد مات بفعل المرض ومنهم من اعتقد أنه :موت نتيجة عاملي السم والمرض، وكل ذلك لم يفض إلى نتائج نهائية.

يبقى أن نشير إلى الحقبة التي تلت عملية الاغتيال، فالفوضى والانهيار كانا عنواني المرحلة، ما يعني أن من دبر عملية الأغتيال قد فشل فشلا ذريعا في جعل الحكم لصالحه إذا ما افترضنا أنه اغتيال سياسي من أحل السلطة، فقط بطليموس نجح في الحصول على السلام كما مهدنا، حيث كان له نصيب وافر من الغنائم في مصر الغنية، أما بقية الجنرالات فقد استمروا في الاقتتال مع بعضهم البعض، وفي نهاية المطاف لابد أن نرى من الزاوية الأخرى، هل فعلا ضباط النخبة المقدونيين كان لديهم خبرة في السموم؟ إن نظرية المؤامرة التي تفضي إلى اتهام جنرالات النخبة تعني بالمعنى الصريح أنهم يغامرون بكل شيء، مما يفضي في النهاية إلى أنه من الأسهل تصور أن الإسكندر مات بسبب المرض على الرغم من كل الجهود الجبارة التي بذلت في مجال التحقيق لإثبات خلاف ذلك.

المصدر 

هنا