البحث العلمي والمنهجية العلمية > البحث العلمي

الانحياز في البحث العلمي؛ الانحياز في مرحلة التخطيط

تُعدُّ كلٌّ من الموضوعية وعدم الانحياز ركنَين أساسيَّين من أركان المنهجية العلمية التي لا تكتمل دونهما؛ فهما يضمنان دراسة التجربة أو الظاهرة بعشوءة (عشوائية مقصودة) صحيحة وبمعزل عن تأثير الظروف والمتغيرات المُحيطة بها وهي التي قد يُخِلُّ وجودها بأحد مراحل الدراسة، وذلك لضمان صحة البحث ودقته في إعطاء نتيجة قابلة للتكرار لتُعتمد هذه النتيجة علمًا موثوقًا يُبنى عليه.

يُعرف الانحياز (Bias) بأنه خطأ منهجي ناتج عن الميول -سواء المقصود أم غير المقصود-  إلى خيار أو خطوة أو عينة دون غيرها على نحوٍ مخالف لمعايير التجربة وبنائها؛ مما يُؤدي إلى خطأ في منهجية البحث يُضعف من صحة نتائجه وموثوقيته. 

يمكن أن يحدث الانحياز في كل مرحلة من مراحل البحث؛ ابتداءً بمُقاربة جمع العينات والبيانات واختيارها، ثم تصميم شكل الدراسة، ثم  إدارة التجربة، ثم تحليل البيانات، وانتهاءً بتفسير النتائج والميل للوصول إلى نتيجة معينة دون غيرها. ويمكن أن يكون الانحياز مخاتلًا يتمثل بانحياز عشوائي غير معروف بأحد مراحل البحث لنصل إلى نتيجة أو استنتاج مخالف للحقيقة.

لذلك؛ يجب على كل باحث أن يكون ملمًّا بمفهوم الانحياز ليحذر من مصادر الانحياز المحتملة كلّها في جميع مراحل بحثه وتجربته، وليؤدي كل ما يمكن فعله لتخفيف خطر الانحياز حتّى يصل إلى نتائج أقرب ما تكون إلى الحقيقة.

يوجد قرابة الـ 35 نوعًا من الانحياز في الدراسات البحثية، وسنذكر في هذه السلسلة أهم الأنواع  وأكثرها مصادفةً. 

تُصنف مصادر الانحياز في الدراسات والأبحاث السريرية إلى ثلاثة مصادر؛ تندرج تَحتها أنواعُ الانحياز المُختلفة (الانحياز قبل التجربة، والانحياز في أثناء التجربة، والانحياز بعد التجربة). سنفصّل في هذا المقال الانحياز في مرحلة التخطيط قبل التجربة (1, 2, 3).

الانحياز في مرحلة التخطيط:

 يَشمل الانحياز الذي قد يحدث في كل خطوة من خطوات مرحلة ما قبل التجربة تصميمَ شكل التجربة، وطريقة جمع البيانات، ثم اختيار العينات والمشاركين وتصنيفهم  بالتجربة. ويُسبب الانحياز في هذه المرحلة تشويشَ صحة البيانات التي ستُبنى عليها التجربة ودقتها؛ مما يؤدي إلى تدمير مبدأ صحة التجربة والبحث قبل أن يبدأ، وتصنف الانحيازات الآتية ضمن هذه المرحلة (2):

1- الخطأ في اختيار تصميم الدراسة المناسب (Flawed study design): هو الخطأ الذي يحدث في مرحلة اختيار كلٍّ من شكل الدراسة المناسبة لموضوع البحث وسؤاله، والبناء التصوري للبحث، وطرائق تحليل البيانات ودراستها.

إن  وجود هذا النوع من الانحياز يعني عدم اختيار نوع الدراسة الأمثل للبحث، مثال: استخدام دراسة الحالات والشواهد (Case-control) للوصول إلى دراسة شاملة عن مخرجات (outcome) عن التعرض (exposure) وهو استخدام خاطئ؛ إذ تُستخدم دراسة الحالات والشواهد انطلاقًا من النتائج للوصول إلى دور تعرض معيّن (التدخين والتعرض للإشعاع، إلخ..)، فهي تدرس التعرض لا مخارجه، ويمكن تجنب هذا الخطأ بالتأني في اختيار تصميم الدراسة، وبتحديد المخاطر والنتائج بدقة، وبتوحيد جمع البيانات وتعميته، وبتنظيم الأفكار وتحديد هدف البحث بدقة (2,7,8,9). 

2- انحياز الاختيار (Selection bias): يحدث الانحياز بالاختيار في أثناء التعريف أو الاختيار الخاطئ للشريحة المُستهدفة للدراسة؛ إذ تكون عينة الدراسة غير مُعشوءة على نحو صحيح ولا تُمثِّل بدقة الجَمهرة المُجتمعية المَستهدفة التي تَخدم هدف البحث، وذلك لعدم تحديد الشريحة المستهدفة على نحوٍ واضح وصحيح ودقيق، وإغفال أو إنقاص أحد معايير اختيار العينات أو المُشاركين في التجربة. مثال: في دراسة لتحرِّي دَور التدخين فقط في إحداث سرطان الرئة؛ يجب اختيار المُشاركين بعناية وضَمان عدم وجود عوامل أُخرى قد تُؤثر في حدوث السرطان كعمل المُشاركين ببعض المِهَن التي يَتعرَّضون فيها للكروم والنيكل أو وجود تاريخ مُتأصل لحدوث سرطان الرئة العائلي وغيره؛ فيُشترط لتجنب حدوث الانحياز بالاختيار الانتباهُ والدقة في اختيار العينات والمرضى ليكونوا معشوئين على نحوٍ صحيح، ونوعيِّين في تمثل الشريحة المستهدفة، ولا يملكون صفات مؤثرة من خارج هذه الجمهرة. ومن الجدير ذكر بعض أنواع الانحياز المهمة التي تندرج تحت هذا النوع من الانحياز (الانحياز بالاختيار) (2, 3, 4, 10, 5):

     - انحياز الاستنزاف (Attrition bias): يحدث عند انسحاب المرضى من الدراسة على نحوٍ غير مُتساوٍ بين مجموعتي الاختبار (مجموعة التعرض ومجموعة الشاهد)، وما ينتج عنه من اختلال التوازن بين المجموعتين وعدم القدرة على متابعتهما (2, 3, 4, 10, 5).

    - انحياز المتطوعين (Volunteer bias): قد يملك الأفراد الذين يَتطوعون للدراسات والأبحاث عادةً صفات وخصائص يمكن أن تؤثر في دقة الدراسة أكثر من مُعدل العينة الأنموذجية المُستهدفة للدراسة. مثال: في دراسةٍ لتقييم نوع جديد من الاختبار الكاشف لفقر الدم؛ قد يميل المُتطوعون الذين تراودهم الشكوك بإصابتهم بفقر الدم للمُشاركة بسبب رغبتهم في تحري ذلك الشك عن طريق الفحص الجديد (3, 5, 10).

     -الانحياز للناجي (ٍSurvivor bias): يَحدث هذا النوع عند خسارة عدد من المُشاركين في الدراسة، واقتصار تقييم النتائج على العينات أو المشاركين الذين ما زالوا على قيد الحياة. مثال: دراسة ارتباط تعبير مورثة معدلة معينة وحدوث ألزهايمر في خلال 10 سنوات، فلن نستطيع معرفة نتيجة العناصر التي ماتت قبل نهاية التجربة، وستقتصر النتائج على العينات التي بقيت على قيد الحياة (3).

     -الانحياز بالتصنيف (Classification bias): يَحدث في الحالات التي يَصعب فيها تحديد المرض أو مرحلته بدقة؛ إذ لا يوجد معيار ذهبي للتشخيص في هذه الحالات، ونَتيجةً لذلك تُصنف الحالات على نحوٍ خاطئ في مجموعات التجربة؛ فتوضع العينة في مجموعة الشاهد بدلًا من مجموعة الحالات أو العكس. مثال: في دراسة لتقييم دقة اختبار جديد في الكشف المبكر عن سرطان البروستات عند المرضى اللاعرضيين ولغياب وجود فحص فعّال قادر على كشف الحالات المُبكرة لهذا السرطان؛ قد توضع بعض الحالات المُصابة في مجموعة الشواهد بدل مجموعة الحالات أو العكس (3).

    - الانحياز الذاتي بكتابة التقارير (Self-reporting bias): يَحدث عند جمع البيانات عن طريق المسوحات والاستفتاءات والمقابلات عند تدخل الباحث بتوجيه إجابة المُشارك إلى إجابة معينة دون غيرها؛ إذ يجب أن تكون طريقة كتابة السؤال والخيارات وقراءتها محايدة ولا تميل إلى أحد الخيارات وترك المُشارك ليختار بحُريّة (1). 

    - الانحياز القائم على الرغبة المجتمعيَّة (Social desirability bias): يَحدث عند جمع البيانات عن طريق المسوحات والاستفتاءات والمقابلات عند التعرض لأسئلة أو مواضيع حساسة تثير القلق؛ فيميل المُشارك إلى إعطاء أجوبة تحظى برضا النظرة المجتمعية التي قد تكون بعيدة عن الواقع والحقيقة. مثال: عند السؤال عن تعاطي المُخدرات أو شرب الكحول بإسراف (1). 

3- الانحياز بالتحويل (Channeling bias): يَحدث هذا النوع من الانحياز عندما يكون لإنذار الحالة المرضية للمُشارك أو درجة مرضه دورٌ في تصنيفه في مجموعةٍ دون الأُخرى في التجربة؛ أكثر مصادَفة لهذا النوع من الانحياز تكون في التجارب السريرية غير المعشاة (non-randomized trials)، وخصوصًا في تجارب الصناعات الدوائية عند دراسة دواء جديد يُعتقد بأنه أكثر فعالية من القديم، فيحوِّل هذا الادعاءُ المُشاركين الذين لديهم إمراضية خاصة مسبقًا والمرضى الأسوأ إنذارًا إلى مجموعة الدواء الجديد؛ محدِثين خللًا في توزيع المشاركين العشوائي (2, 6).

 

وعند الحديث عن خطر الانحياز في الأبحاث والدراسات؛ لا مكان للتقصير في الفهم أو الإلمام بهذه المفهومات، فهي حجر الأساس سواء في عمل دراسات وأبحاث جديدة دقيقة أم في التقييم النقدي عند قراءة الأبحاث ودراسة إمكانية تطبيقها في العمل السريري.

إتقان هذه المفهومات واجب على كل باحث وطبيب.. تابعونا في الجزءين القادمين.

المصادر:

 
1. Althubaiti A. Information bias in health research: definition, pitfalls, and adjustment methods. J Multidiscip Healthc [En ligne]. 2016 [cité le 3 March 2020];. Disponible: - هنا
2.  J. Pannucci C. Identifying and Avoiding Bias in Research. Plast Reconstr Surg [En ligne]. 2010 [cité le 3 March 2020];. Disponible: هنا
3. Šimundić A. Bias in research. Biochem Med (Zagreb) [En ligne]. 2013 [cité le 3 March 2020];. Disponible: هنا
4. Lambert J. Statistics in Brief: How to Assess Bias in Clinical Studies?. Clin Orthop Relat Res [En ligne]. 2010 [cité le 3 March 2020];. Disponible: هنا Bm6FQmuZrmiM3CialSN8bvoWORXwmtQvvG2j57j4
5. Catalog of Bias [En ligne]. Recall bias; 2020 [cité le 3 March 2020]. Disponible: هنا
6. H P. Channeling bias in the interpretation of drug effects. Stat Med [En ligne]. 1991 [cité le 3 March 2020];. Disponible: هنا
7. Libguides.usc.edu [En ligne]. Research Guides: Organizing Your Social Sciences Research Paper: Design Flaws to Avoid; 2020 [cité le 3 March 2020]. Disponible: هنا
8. CEBM [En ligne]. Study Designs - CEBM; 2020 [cité le 3 March 2020]. Disponible: هنا
9. Para S. Study designs. Int J Ayurveda Res [En ligne]. 2010 [cité le 3 March 2020];. Disponible: هنا
10. Sph.unc.edu [En ligne]. 2020 [cité le 3 March 2020]. Disponible: هنا