البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية

الرجل الخفي؛ حقيقةٌ أم خيال؟

يمكنكم الاستماع إلى العمل عبر الرابط:

تنوعت الأساطير والروايات منذ القدم في وصف الرجل الخفي؛ فقد روى الفيلسوف أفلاطون في كتابه الشهير "الجمهورية" قصةَ خاتم غايغيس الذي يمنح من يرتديه قدرة التخفّي، كذلك  تناولت الكاتبة البريطانية ج.ك رولينغ في سلسلة هاري بوتر موضوعَ التخفي من خلال عباءة هاري بوتر.

مؤخرًا في فيلم الخيال العلمي "فانتاستيك فور"؛ نجد البطلة سوزان ستورم تكتسب القدرة على الاختفاء نتيجة تعرضها لإشعاعٍ في الفضاء الخارجي.

هل تساءلت يومًا عن إمكانية حدوث ذلك؟ دعنا نكتشف في المقال الآتي أحدث الدراسات التي توصل إليها العلماء فيما يخص إمكانية جعل الإنسان شفافًا أو بمعنى آخر؛ خفيًّا.


تطورت لدى بعض الأحياء أساليبُ جديدةٌ ومتنوعةٌ في إنتاج الضوء وانعكاسه والتحكم به، ولعلَّ رأسياتِ الأرجل خيرُ مثالٍ على الكائنات الحية التي تعالج الضوء (2)، إذ يُطلَق عليها اسم "أسياد التنكر"؛ بسبب قدرتها العالية على التخفي من خلال تغيير لون جلدها (2، 4)، بغرض التمويه و الاختباء أو التواصل فيما بينها (2).

ومن بينها أُنثى الحبّار (Doryteuthis opalescens) التي تستطيع تجنب العدو عن طريق تعديل شفافية شريطٍ على وشاحها (mantle)، من شفاف تقريباً (أي تشتيت ضعيف للضوء) إلى أبيض معتم (أي تشتيت قوي للضوء). ويُظّن أن ذلك تحقق عن طريق طبقة متخصصة تحتوي على خلايا ليكوفورات (leucophores) تضم هياكل بروتينية تدعى ليكوزومات (leucosomes) تتكون ضمنها بروتينات الرفلكتين (Reflectin proteins). 

وقد استمد العلماء الإلهام من أنثى الحبّار لتطوير خلايا في جسم الإنسان وجعلها تمتاز بالشفافية من خلال البروتوكول الآتي:

أولاً؛ اختيرَت خلايا بشرية قد يكون لها قدرة على الشفافية البصرية.

ثانياً؛ جُمعَت وحُدِّدت خصائص البروتينات الضوئية (بروتينات الرفلكتين) المطلوبة داخل تلك الخلايا البشرية وفي المقابل دُرِس تأثير هذه البروتينات على الخصائص والوظائف البصرية على الخلايا البشرية المعدلة.

أخيرًا؛ جرى التأكد من إمكانية تعديل نفاذ الضوء وتشتيته من خلال الخلايا البشرية المعدَلة بواسطة محفز خارجي.

وقد اختيرَت خلايا الكلى الجنينية HEK لأنها قادرة على التعبير عن البروتينات المؤشبة بفعالية، وكذلك لديها القدرة على تقبُّل جزيئات حيوية غريبة ضمن الهيولى. 

أما بروتين الرفلكتين؛ فهو يتألف من تسلسلات فريدة تتكون من نسبة منخفضة من الأحماض الأمينية الأليفاتية مثل: الألانين والليوسين الأيزوليوسين ونسبة عالية من الأحماض الأمينية العطرية كالتيروزين والتريبتوفان ويجري إغناؤها بالأحماض الآرجينين والأسبارجين والميثيونين، كذلك يُظَن أن هذه التركيبة هي المسؤولة مباشرةً عن قدراتها الضوئية الفريدة من نوعها (1).

هذا وقد أكدت دراسات سابقة أن معظم محتويات الخلايا الحية ليس لديها القدرة على امتصاص الضوء المرئي عدا بعض العناصر الصبغية كالميلانين، وباستبعاد هذه العناصر الصبغية؛ يقل امتصاص الضوء وبالتالي تصبح الخلية عديمة اللون. 

يمكن تحقيق ذلك من الناحية الكيميائية من خلال إضافة مواد كيميائية تقضي على هذه الأصباغ أو إجراء اختبارات وراثية من خلال طفرات تعطل التشكيل الحيوي للصباغ؛ وبعد التخلص من المادة الصبغية يكون السبب الرئيس لأي تعتيم متبقي للأنسجة العضوية هو انتثار الضوء (تشتت الضوء). 

إن سبب الانتثار الخفيف هو عدم الانتظام الموضعي في مؤشرات الانكسار لعضيات الخلية مثل: عضيات الهيولى وبروتيناتها والهيولى نفسها، تؤدي هذه الأشكال غير المنتظمة إلى تغيير اتجاه انتشار الضوء. نظرًا إلى التغيرات الاتجاهية الكافية بسبب حالات الانكسار والانعكاس المتعددة، فإن الأنسجة، وعلى الرغم من عدم امتصاصها للضوء، ستكون معتمة وغير شفافة. بغية الحد من هذا التشتت، يمكن تطبيق إجراءات كيميائية أو وراثية لتُجانس معاملات الانكسار (RIs) غير المتطابقة بين العضيات الخلوية والهيولى؛ فيمكن حقن المواد الكيميائية في الهيولى، وتغيير معاملات الانكسار (RIs) للعناصر الخلوية أو الهيولى، أو قد تولَّد المادة الانكسارية داخل الهيولى عن طريق تعديلات جينية على الهيولى أو العضيات (3). 

ولعلَّ السؤال الأهم الذي يتبادر إلى أذهاننا، ما الفائدة المرجوة من جعل الخلايا شفافة؟

مبدَئِياً، قد تقدم فائدة عظيمة للأبحاث، فمثلاً في عام 2018 م؛ رسم باحثون في اليابان خريطةً توضح التنظيم الخلوي لدماغ فأر بتفاصيل لم تُشاهَد من قبل، إذ جعلوا الدماغ شفافاً وشديد الوضوح باستخدام مواد كيميائية وتقنياتِ تصوير فريدة وتكبيرٍ عالي الدقة، ويمكننا ذلك من استكشاف أعماق الدماغ في صورة أفضل وكذلك فهم سلوكيات مثل دورة النوم والاستيقاظ.

يرى العلماء أن هذا الاكتشاف يفتح لنا النافذة ليس فقط على الدماغ البشري، وإنما على كافة أعضاء الجسم وخلاياه أيضًا لاكتشافها و دراستها وعلاجها مستقبلاً (5).

المصادر:

  1. Wang T، Ma J، Hogan A، Fong S، Licon K، Tsui B et al. Quantitative Translation of Dog-to-Human Aging by Conserved Remodeling of the DNA Methylome. Cell Systems. 2020;. هنا 
  2. Morell V. Here’s a better way to convert dog years to human years، scientists say. Science. 2019;. هنا 
  3. Pelizzola M، Ecker J. The DNA methylome. FEBS Letters. 2010;585(13):1994-2000. هنا 
  4. Horvath S، Raj K. DNA methylation-based biomarkers and the epigenetic clock theory of ageing. Nature Reviews Genetics. 2018;19(6):371-384. هنا 
  5. Mendelson M. Epigenetic Age Acceleration. Circulation: Genomic and Precision Medicine. 2018;11(3). هنا 
  6. Gibson J، Russ T، Clarke T، Howard D، Hillary R، Evans K et al. A meta-analysis of genome-wide association studies of epigenetic age acceleration. PLOS Genetics. 2019;15(11):e1008104. هنا