الفنون البصرية > سلسلة تاريخ الفن

الفن القوطي (Gothic Art)

الفنُّ القوطيُّ هو حركةٌ فنِّيّة من العصور الوسطى، امتدت على مدى قرنين. ازدهرت في فرنسا، وتشكّلت تطورًا عن العصر الروماني في منتصف القرن الثاني عشر، وتطوّرت نحو نمطٍ أكثر علمانية وطبيعية يُعرف باسم القوطيّة الدولية (International Gothic) ، والذي استمرَّ حتى أواخر القرن الخامس عشر؛ إذ تطوّر هذا الفنّ إلى فنِّ عصر النهضة. كانت وسائل الفن القوطيّة الأساسيّة هي النحتُ والرَّسمُ على اللوحات الخشبيّة والزُّجاج الملّون واللوحات الجداريّة والمخطوطة المُضاءة.(1)

نشأ مصطلحُ "القوطيّة Gothic" وسيلةً للتقليل من شأن النقاد الذين انتقدوا عدم الالتزام بمعايير اليونان وروما الكلاسيكية. ومع ذلك أشار رجال القرنين الثالث عشر والرابع عشر إلى الكاتدرائيات القوطيّة على أنّها (العمل الحديث - Opus Modernum). في الواقع، يمثّل ظهور النمط القوطيّ قمة الإنجاز للعالم المسيحي الموحّد. "إنّها تمثّل انتصار البابوية؛ توليف ناجح وملهم للدين والفلسفة والفن." في نهاية المطاف كانت المدينة القوطيّة تمثّل توحيد الأفكار العلمانية والدينية.(1)

  

البوابة الغربية (الملكية) في كاتدرائية شارتر (حوالي 1145)

النحت:

ظهرَ النحتُ القوطيُّ على جدران كنيسة (القديس دنيس) في منتصف القرن الثاني عشر، قبل ذلك لم يكن هناك تقاليد نحت في إيل دو فرانس(Ile-de-France)، لذلك جُلب النحاتين من بورغوندي(Burgundy). ابتكروا الشخصيات الثورية التي تعمل أعمدةً في البوابة الغربية (الملكية) لكاتدرائية شارتر؛ وهو اختراع جديد تمامًا من شأنه أن يوفّر الأنموذج لجيلٍ من النحاتين.(1)

 

شخصيات من كاتدرائية شارتر.

ارتبط النحتُ القوطيُّ ارتباطًا وثيقًا بالهندسة المعمارية؛ إذ اُستخدم في المقام الأول لتزيين الأجزاء الخارجية من الكاتدرائيات والمباني الدينية الأُخرى. كانت أقدم التماثيل القوطيّة -عبارة عن أشكال حجرية للقديسين والعائلة المقدّسة- تُستخدم لتزيين مداخل أو بوابات الكاتدرائيات في فرنسا وأماكن أُخرى. غُيّرت التماثيل الموجودة على البوابة الملكية لكاتدرائية شارتر(Chartres Cathedral) (حوالي 1145-1155) قليلًا عن أسلافهم الرومانسيين بأشكالها الصلبة والمستقيمة والبسيطة والمطوّلة والهيراطيقية (Hieratic). لكن خلال القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر أصبحت المنحوتات أكثر استرخاءً وطبيعيةً في معالجتها أثناء العمل، وهو اتجاهٌ تُوّج بالزخارف النحتية لكاتدرائية ريمس(Reims Cathedral) (حوالي 1240). هذه الشخصيات، مع الحفاظ على كرامة وأثر أسلافها، لها وجوه وشخصيات فردية ، بالإضافة إلى ستائر كاملة متدفقة ووضعيات وإيماءات طبيعية، وتعرض اتّزانًا كلاسيكيًّا يُشير إلى وعيٍ بالنماذج الرومانية العتيقة من جانب مبدعيها. وبدأ البناؤون القوطيّون الأوائل في ملاحظة الأشكال الطبيعية ،مثل النباتات، على نحوٍ أفضل، وهو واضح في مجموعات الأوراق المنحوتة -على نحو واقعي- التي تزيّن رأس الأعمدة.(2)

  

البوابة الملكية من الجهة اليمنى لكاتدرائية شارتر-فرنسا.

  

تمثال في كاتدرائية ريمس-فرنسا.

أخذت المنحوتات الأثرية دورًا بارزًا على نحو متزايد خلال الفترات القوطيّة المتأخرة، ووُضعت بأعداد كبيرة على واجهات الكاتدرائيات. في القرن الرابع عشر، أصبح النحت القوطيّ أكثر دقة وأناقة واكتسب رقّة متقنة في ستائره الدقيقة. انتشرت أناقة هذا الأُسلوب، وإلى حدٍّ ما انتشرت أيضًا أساليب مصطنعة من أناقته في جميع أنحاء أوروبا في مجالات النحت والرسم وإعداد المخطوطات، وأصبح يُعرف باسم (النمط القوطي الدولي). كان الاتجاه المعاكس في هذا الوقت هو الواقعية المكثّفة (Intensified Realism)، وهو واضحٌ في منحوتات المقابر الفرنسية، وفي الأعمال القوية والمثيرة للنحّات القوطيّ الراحل كلاوس سلوتر (Claus Sluter).(2)

  

النافذة الشمالية في كاتدرائية شارتر-فرنسا.

  

النافذة الغربية في كاتدرائية ريمس-فرنسا.

العمارة في الفنِّ القوطيِّ:

تُعدُّ العمارة الشكل الأهم والأكثر أصالةً خلال الفترة القوطيّة. نشأت الخصائص الهيكليّة الرئيسة للهندسة المعمارية القوطيّة بجهود البنائيّن في العصور الوسطى لحل مشكلات القبوات في السقوف ذات الوزن الثقيل على مجاز واسع. المشكلة كانت بأنّ الأحجار الثقيلة للشكل التقليدي للقبوات تقوم بالضغط الهائل على الجدران مما يؤدي لانهيارها، ولهذا السبب يجب أن تكون الجدران الداعمة العمودية للمبنى سميكة وثقيلة للغاية من أجل احتواء الدفع الخارجي للقبّة ذات الشكل التقليدي(barrel vault and the groin vault).   (2) 

حلَّ البناؤون في العصور الوسطى هذه المشكلة الصعبة في عام 1120 بعدد من الابتكارات الرائعة. بالبداية طوّروا القبوة المضلعة ، إذ تدعم الأضلاع الحجرية المقوّسة سطح السقف المقبب المكوّن من ألواحٍ حجريّة رقيقة، هذا يقلل على نحو كبير من الوزن (وبعد ذلك الدفع الخارجي) لقبة السقف، وبما أنّ وزن القبوة يُحمَل الآن في نقاط منفصلة (الأضلاع) بدلًا من طول حافة الجدار المستمرة، فأنه يمكن فصل الأرصفة العمودية المتباينة على نطاق واسع لدعم الأضلاع وبعد ذلك استبدال الجدران السميكة المستمرة. تُستبدل الأقواس المستديرة للقبوات ذات الشكل التقليدي(barrel vault) بأقواس (قوطيّة Gothic) مدببة توزع الدفع في اتجاهات أكثر من أعلى نقطة من القوس إلى أسفلها.(2)،(1)

  

أربعة أنواع من القبوات الشائعة.

  

السقف المقبب في كاتدرائية أمينس-فرنسا.

ولم تكن العمارة القوطيّة مقتصرةً على الكاتدرائيات، بل امتدت لجميع أشكال العمارة، وأهمّها القصور الملكية أو قصور العدل وبعض التحصينات، ومثالها، قصر البلدية في مدينة بورغ (Bourg)وقصر البلدية في إيبر (Ypres).

ومن أشهر الكاتدرائيات القوطيّة في إيطاليا (كنيسة دومو ميلانو)، وقد بدأ بعمارتها في عام 1836م، وانتهت في عام 1856م، وهي من الرّخام، مغطاة بأكثر من أربعة آلاف تمثال رخامي، وهي بذلك تُعدُّ أروع أنموذج للعمارة القوطيّة. وفي البندقية، لا يزال قصر الدوكال (Ducal)؛ أي قصر دوق المدينة من أكمل المنشآت القوطيّة، ويعود إلى القرن الثامن. ومن أعظم أمثلة العمارة القوطية في إسبانيا، كاتدرائية إشبيليا (1043). وفي قبرص، مازالت كاتدرائية القديس نيقولا (1300) ومستشفى رودوس (ق 15) من آثار العمارة القوطيّة الناضجة.  وفي سورية، تُرى بعض معالم الفن القوطيّ واضحة في قلعة الحصن (Crac des Chevaliers)، والتي أُنشئت في بداية القرن الثاني عشر، وكانت قد صُممت على أساس حربي دفاعي من قبل فرسان الاستبالية، وهي من أكمل القلاع. ويبدو الطابع القوطيّ واضحًا حتى اليوم في المنشآت التي تُحيط الفناء الأول، إذ يُرى بناءٌ تطلُّ منه خمسة نوافذ قوطيّة وباب على شكل قوسٍ مدببة يؤدي إلى الصالة الكبرى الرائعة، وأبعادها 27×7.5م، مؤلفة من ثلاث معازب عقدية، ترتكز على تقاطع عقود قوطيّة تزيّنها زخارف نباتية.(3)

  

كاتدرائية إشبيليا-إسبانيا.

  

صور لقلعة الحصن-سوريا.

  

كاتدرائية أميان من الداخل.

الرسم في الفنِّ القوطيّ:

اتّبع الرّسمُ القوطيُّ أُسلوب النحت ذاته بالتطوّر. من الأشكال المتصلّبة والبسيطة والهيراطيقية إلى الأشكال الأكثر استرخاء وطبيعية. امتازت لوحات هذه الفترة بالخطوط المنحنية والتفاصيل الدقيقة والزخرفة المكررة، وغالباً ما يُطبق الذهب على اللوحة لونًا للخلفية. أصبحت التركيبات أكثر تعقيدًا مع مرور الوقت، وبدأ الرسامون في البحث عن وسائل لتصوير العمق المكاني في صورهم، وهو البحث الذي أدّى في النهاية إلى إتقان المنظور في السنوات الأولى من عصر النهضة الإيطالية. في الرَّسمِ القوطيِّ المُتأخّر للقرنين الرابع عشر والخامس عشر، ظهرت مواضيع دنيوية، مثل، مشاهد الصيد وموضوعات الفروسية وتصوير الأحداث التاريخية. (2)

 

رسم توضيحي لشهر مايو(أيلول) من كتاب تريس ريتشيس دو دوك دو بيري(Tres Riches Heures du duc de Berry)، مخطوطة مُضاءة بإخوان ليمبورغ ، 1416، في متحف كوندي، شانتيلي، فرنسا.

  

«عبادة المجوس» للفنان جانتيل دافابريانو (1423).

في النهاية كان الفنّ القوطيّ أحدُ أهمّ الفترات التي ساعدت على تطوّر الفن ووصوله لمستويات جديدة من الإبداع، وأثّرت على نحو كبير بمجال العمارة، وانتشرت على نطاق واسع في العالم، وظهر فيها عدد كبير من الفنانين والمعماريين الذين أبدعوا بتلك الفترة الزمنية.

المصادر: 

1. Gothic Art - New World Encyclopedia [Internet]. Newworldencyclopedia.org. 2020 [cited 5 July 2020]. Available from: هنا

2. Gothic art - High Gothic [Internet]. Encyclopedia Britannica. 2020 [cited 5 July 2020]. Available from: هنا

3. بهنسي ع. الموسوعة العربية | القوطي (الفن-) [Internet]. Arab-ency.com.sy. 2020 [cited 5 July 2020]. Available from: هنا