الموسيقا > موسيقا

مستقبل الموسيقا الكلاسيكية: الحلول

بعد التحدث عن مسببات تراجع الاهتمام بالموسيقا الكلاسيكية، نحن الآن أمام الحلول التي اقترحتها ونفذتها مجموعة من الأوركسترات لتحسين هذا الواقع.

فقد أجرت The New World Symphony بحثاً اقترحوا فيه مفهوماً يُسمى "BETR" مصمم لتوفير تجربة حفلة موسيقية أفضل لجمهور الموسيقا الكلاسيكية.

BETR هي اختصار لمجموعة كلمات وهي:

Bring (الجذب): التسويق والإعلان.

Engage (التشارك): الحدث والأداء.

Test (التحليل): الاستطلاع ومجموعات التركيب، والتحليل.

Refine (التنقيح): إعادة تصميم المحتوى.

وسوف نركز على أول مبدئين من هذه الحلول وهما الجذب والتشارك (1):

1- الجذب 

يعتمد هذا الأسلوب على تكتيكات ما قبل الأداء، من تسويق وإعلان ومبيعات التذاكر؛ بهدف جذب الجماهير لحضور عروض الموسيقا الكلاسيكية. 

وهناك عدة عناصر تُستخدم لجذب المزيد من الجماهيروتُعد هذه العناصر "مُنتجات" الفرقة: وهي شهرة الفرقة، وقائد الأوركسترا، والعازفون المنفردون والبرامج. إذا كانت الثلاثة الأولى مرموقة، فسيكون من الأسهل الإعلان عنها والترويج لها لجمهور الموسيقا الكلاسيكية (1).

 لنتعرف أكثر إلى هذه العناصر:

-بدايةً الاشتراكات:

تتعلق الاشتراكات بالعروض ومواسم بيع البطاقات.

لا توجد فروق مهمة بين استراتيجيات بيع التذاكر وبيع الاشتراكات لأوركسترات مختلفة، مثلاً لا تمتلك الأوركسترا في المملكة المتحدة سلسلة أو مجموعات منسقة للجمهور للاختيار من بينها، لكنها تقدم خصومات وعروضاً ترويجية أخرى (1).

تعطي حملات الاشتراك التدفق النقدي وحجم المبيعات الذي تحتاجه الأوركسترا لتكون فعالة من وجهة نظر السوق.

لكن لاستراتيجيات بيع الاشتراكات ثغرتان كبيرتان هما:

أولاً: يعمل تسويق الاشتراكات بوصفه مرشحاً لجمهور الأوركسترا، التي تتعارض مع هدف جذب الجماهير الأصغر سناً. قُرابة 50% من المشتركين هم بعمر ال 65 أو أكبر، و17% هم من عمر ال 75 أو أكبر.

المشكلة الكبيرة الأخرى في تسويق الاشتراكات هي أن نسبة كبيرة من الجمهور المستقبلي لهذه الأوركسترات -بما في ذلك العديد من أولئك الذين لديهم معرفة عالية بالموسيقا الكلاسيكية- ليسوا مهتمين بالالتزام بتجديد الاشتراكات (2).

سيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كان توفير المرونة لجمهور الموسيقا الكلاسيكية في اختيار اشتراكاتهم الخاصة يؤدي إلى زيادة مبيعات التذاكر في المستقبل! (1).

- ثانيًا: تنسيقات الحفل وبرامجه:

أصبحت برامج الحفلات الموسيقية واحدة من المنتجات المهمة لجذب الجماهير -من المهم أن نتذكر أنه ليس لكل جمهور الذائقة الموسيقية نفسها. وبهذا، يكون وجود خيارات مختلفة للاختيار أمراً حيوياً.

تتضمن برامج الحفلات الموسيقية عادةً اسم قائد الفرقة، والعازف المنفرد، واسم الفرقة، وعناوين المقطوعات الموسيقية وأسماء الملحنين. ذكرنا سابقاً أن وجود عازفين منفردين أو قادة فرق موسيقية مشهورين يجعل الإعلان أكثر جاذبية؛ لأن هؤلاء الفنانين قد أسسوا بالفعل ثقة معينة مع الجمهور؛ إذ يعرف الجمهور تمامًا ما يمكن توقعه.

إعلان لحفل سولو ستقدم فيه Hilary Hahn كونشرتو Sibelius للكمان مع أوركسترا راديو السويد، بقيادة Esa-Pekka Salonen.

ومع ذلك، بالنسبة للجمهور الذي لديه خبرة قليلة أو معدومة في الموسيقا الكلاسيكية، قد تكون هناك حاجة لأنواع مختلفة من البرامج أو التنسيقات. على سبيل المثال، تقدم Los Angeles Philharmonic Orchestra بعضًا من برامج  الحفلات الموسيقية الأكثر إثارة لاهتمام الجمهور بهدف إنشاء برنامج فريد لا يمكن العثور عليه إلا في Los Angeles Philharmonic Orchestra

 (La phill).

بناءً على هذا المبدأ، يوجد حالياً سبعة وعشرون سلسلة مختلفة، فيها ما يستطيب لكل فرد (1).

حفل Katy Perry مع LA phill:

-ثالثًا مكان الأداء:

لن تكون البرامج وتنسيقات الحفلة الموسيقية المذكورة أعلاه ممكنة دون وجود مرافق جاهزة لأي ظرف من الظروف، فيعد مكان الأداء أهم العوامل التي يجب مراعاتها خارج نطاق الموسيقا؛ من حيث وجود عدد كافٍ من مواقف السيارات، وأماكن للتجمع قبل كل أداء أو بعده، أو حتى مجرد وجود مرافق وغرف وحمامات نظيفة. 

وكل هذا ما هو إلا بعض العوامل التي تجعل الجمهور أكثر راحة، وبذلك الحضور الأكبر.

 أما المساحات التي بُنِيت بالفعل والتي هي قيد الاستخدام، فيجب أن تجد إدارة الأوركسترا أفضل طريقة لاستخدام المساحات مع مراعاة الإمكانيات المختلفة (1).

إضافة إلى ذلك، كشفت دراسة ملفات الحضور ل 15 أوركسترا أن هناك علاقة وثيقة بين ساعات قيادة السيارات وتكرار الحضور، فكل واحدة من هذه الأوركسترات تجذب قُرابة 80%من مشتري التذاكر ضمن دائرة نصف قطرها 25 ميلاً حول مكان الأداء (2).

- رابعًا جمع التبرعات:

بما أن التمويل العام يشهد انخفاضًا ملحوظًا، فمن المهم إيجاد موارد أخرى لدعم الخطط، بدءًا بهذه الفكرة أصبحت التبرعات الخاصة الجزء الأكبر من دخل الأوركسترا.

هناك بعض المخاوف في إدارة المنظمات الفنية لكونها مؤسسات غير ربحية والتي تمنع المستفيدين في بعض الأحيان من تقديم المنح. 

أولاً، تود منظمات التمويل أن ترى المنظمات الفنية تعمل بطريقة تشبه الأعمال التجارية، أي تحقيق الأرباح، ووضع الخطط المستقبلية، وعدم الاعتماد فقط على التمويل الخارجي، ويجب أن تجد المنظمات الفنية أفضل طريقة لإدارة مؤسساتها بأكثر الطرائق سلاسة. على سبيل المثال يمكن القيام بذلك من خلال وجود احتياطيات نقدية توفر سيولة مالية لإدارة الأعمال اليومية بدلاً من أموال التبرعات، وهذا لن يؤدي إلى المساءلة والشفافية في إدارة المنظمة فقط، بل سيساعد على خلق ثقة المتبرعين والتي بدورها ستساهم في كسب المزيد من الدعم.

 ثانياً، يجب أن تركز المنظمات الفنية على نحو أكبر على صلتها بالمجتمع وتطوير الجمهور (1).

- خامسًا إدخال الموسيقا الكلاسيكية في المناهج الدراسية:

الاعتراف بأن تعليم الموسيقا للأطفال وعزفها بوقت مبكر على نحوٍ أكثر اتساقًا، يزيد من احتمال تقديرهم للموسيقا الكلاسيكية مما سيجعلهم من روّاد حفلات الموسيقا الكلاسيكية. تولت العديد من الأوركسترات دور المعلم وطوروا برامج توعية ناجحة ومزدهرة لتعليم الأطفال والجمهور الأصغر سناً. ومع ذلك فإن التطوير الكامل لتقدير الفنون يتطلب تعليماً شاملاً طويل الأمد.

والصعوبة بتحقيق هذه الخطة يعود إلى أن القليل من الأوركسترات لديها الموارد المالية والوقت الكافي لسد الفجوة في مناهج المدارس العامة (3).

-سادسًا جذب الجمهور من الشباب الذين لديهم مهنة مرموقة أو ما يُمثل بمصطلح (young professionals):

 لا تستهدف الأوركسترا السيمفونية العملاء الحاليين وتسعى جاهدة لتعزيز ولائهم فقط، بل تعمل أيضاً على تنمية الجماهير المحتملة من خلال تطوير البرامج والفرص التي تجذب شرائح من السكان أقل احتمالاً لحضور العروض الموسيقية. يمثل هؤلاء الشباب قاعدة جماهيرية كبيرة محتملة يمكن التعامل معها على أنها شريحة مستهدفة عندما تُطوِر الأوركسترا السيمفونية جماهير جديدة. يُمكن أن تتحول هذه المجموعة المُحتملة من المستهلكين إلى الحل السريع والعاجل لتراجع حضور حفلات الموسيقا الكلاسيكية. 

وفي الواقع، حاولت العديد من الأوركسترات مثل New Jersey Symphony Orchestra، تنمية المهنيين الشباب من خلال مشاريع خاصة أو استراتيجيات تسويق فريدة (3).

- سابعًا استخدام وسائل الإعلام:

مع تطور أنظمة التسجيل والبث، أصبحت مؤسسات الموسيقا الكلاسيكية قادرة على الترويج لأعمالها أو عروضها لجمهور أوسع، خاصة الجمهور الذي لم تتح له فرصة حضور حفلات الموسيقا الكلاسيكية (1).

إذ أن الراديو هو النمط السائد للاستماع  للموسيقا الكلاسيكية، تليه التسجيلات ثم الأمسيات الحية (2).

تعتمد استراتيجية التسويق الناجحة على طريقة تواصل فعالة من مزيج من الرسائل وقنوات الاتصال وخطط الترويج. 

فعندما ترغب أي مؤسسة في جذب جماهير لمنتجها، ولأسعارها، ولترقياتها أو منشآتها، فإنها تحتاج إلى الإخبار، والإقناع، والتثقيف. وهنا يُعد إرسال رسائل فعّالة من خلال الإعلانات، والبريد المباشر، والتسويق عبر الهاتف، ومؤخراً عبر الإنترنت أمراً بالغ الأهمية لتعزيز الاهتمام وتحقيق المبيعات (3). 

الآن، يمكن العثور على برامج الحفلات الموسيقية والتذاكر وغيرها من المعلومات عبر الإنترنت. أصبحت منصات الوسائط الاجتماعية مثل Facebook جزءاً لا يتجزأ من العديد من منظمات الموسيقا الكلاسيكية للتواصل مع جمهورهم عبر الإنترنت.

وأصبحت الفيديوهات المنتشرة (Viral Videos)، التي تجري مشاركتها بسرعة وشعبية على الشبكات الاجتماعية، أداة ترويجية بارزة(1).

2- التشارك 

تركز هذه الفئة على استراتيجيات لخلق تجارب مختلفة في أثناء الأداء. من المهم أن نتذكر أن الجمهور يحضر العروض لأنهم يرغبون في الاستمتاع أو المشاركة في الموسيقا التي يستمعون لها، ففي بيئة الحفلة الموسيقية التقليدية، إن أبسط استراتيجية يمكن أن تشرك الجمهور هي ببساطة البرنامج الموسيقي نفسه. على الرغم من أن هذا واضح، لكن لا بد من تذكير المؤدين أنه على جمهور الموسيقا الكلاسيكية الحصول على أفضل أداء ممكن. هذا على الأقل، يضمن أن يكون الجمهور قادراً على الاستمتاع بالفن، إن لم يكن الجمالية أيضاً.

إلى الآن، من المفهوم أن النموذج التقليدي لحفلة موسيقية كلاسيكية ذات ذخيرة موسيقية كلاسيكية قياسية يعمل على نحو أفضل مع الجماهير التي لديها خبرة أكبر في الموسيقا الكلاسيكية. إذ يمكنهم الاستماع للموسيقا دون الحاجة إلى مساعدات خارجية لتقدير جمالها، وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض التغييرات في عرض الحفل أو شكله قد تقوي تجربة الجمهور. 

فيما يلي بعض الأمثلة على استراتيجيات مختلفة  تغيّر بعض جوانب تأدية الحفل الكلاسيكي من أجل تقديم خيارات للجمهور لتجربتها.

1- التفاعل مع النص أو السرد أو"المتحدث":

في تصميم الحفلة الموسيقية التقليدية، تُقدم الملاحظات عن البرنامج من أجل إعطاء القارئ معلومات عامة عن البرنامج. يجب أن توفر الملاحظات الجيدة معلومات يمكن لجميع الأشخاص فهمها بسهولة. الملاحظات الشفوية تقدم معلومات مثيرة للاهتمام وليست موجودة في الملاحظات المكتوبة ويجب أن تتعلق بما سيسمعه الجمهور.

غالباً ما تكون استراتيجيات دمج السرد أو النص أو التحدث جزءاً من البرامج التي تركز على التعليم، والتي تهدف إلى توفير دليل استماع للجمهور، وكسر الحاجز بين المستمع والمؤدي.

بمعرفة ما يجب الاستماع له، من المرجح أن يكون الجمهور أكثر انتباهاً وانخراطاً.

حفل قدمته أوركسترا فانكوفر السمفونية وشُرِح العمل بأسلوب لطيف وبارع

(Vancouver symphony orchestra)

2- التفاعل مع تخصصات أخرى (ممثلون، وراقصون، أو فنون أخرى):

أصبح هناك المزيد والمزيد من التعاون متعدد التخصصات في العروض الموسيقية اليوم. والتي تشمل الموسيقا والشعر، الموسيقا والرقص، أو الموسيقا والمسرحيات. ومن المثير للاهتمام، أن هذا المزيج يمكن العثور عليه في واحدة من أقدم الأشكال الموسيقية: الأوبرا.

وأيضًا أصبحت موسيقا الأفلام على نحو متزايد، جزءاً من ذخيرة الحفلات الموسيقية الرئيسية في برامج الأوركسترا، فهي قريبة للجمهور وخاصة موسيقا الأفلام التي حققت نجاحاً في شباك التذاكر.

في هذه الحالة ، يجري أداء موسيقا الفيلم مباشرة مع لقطات من الفيلم، على سبيل المثال: Harry Potter film concert series، أو The Godfather in Concert.

دمج الجانب المسرحي في الأداء الموسيقي الحي لا يفاجئ الجمهور فحسب، بل يخلق أيضاً إحساساً بالألفة، ويضعهم بموقف لا يعرفون ماذا يتوقعون بعد ذلك. 

وبالتالي، يزيد من انتباه الجمهور وتركيزه ومتابعته العروض الموسيقية.

ويشترك هذا الأسلوب مع الأسلوب السابق بأنه قادر على كسر العديد من الحواجز المعتادة في حفل الموسيقا الكلاسيكية. أولاً، ليس على الجمهور الجلوس بهدوء. يمكنهم أن يتفاعلوا عفوياً بالتصفيق والضحك كما يحلو لهم.

 ثانياً، يسهّل التمثيل والمسرح المشكلة المتعلقة بفهم الرسالة الكامنة وراء الموسيقا، إذ يوفر ذلك قصة ودليلا مرئياً يساعد على حل أي رسالة غير واضحة قد توفرها الأصوات وحدها. وهكذا، تصبح الموسيقا جزءاً من رسالة كاملة يرسلها المؤدون لجمهورهم.

3- دور المكان أو مساحات الأداء في إشراك الجمهور:

إن العثور على طرائق مختلفة لاستخدام مؤلفات موجودة سابقاً في أنواع مختلفة من الغرف والمواقع غير قاعات الحفلات الموسيقية أو التقليدية قد لا يُعد تكويناً خاصاً بالموقع بنسبة مئة بالمئة، ولكنه يوفر طرائقَ جديدة لتقديم البرنامج.

توفر الشراكة بين مساحات الأداء المختلفة كالمعارض الفنية مع الفرق الموسيقية نطاقاً أوسع من الذخيرة الموسيقية، فضلاً عن زيادة احتمال الوصول إلى المزيد من الجماهير. هذا لا يعني أن المؤلفات الخاصة بالموقع ليست موسيقا كلاسيكية. يعتمد ذلك على كيفية تقديمها للجمهور وكيفية تصنيفها.

4- إشراك الجمهور والمجتمع والبرنامج التعليمي:

هناك أنواع مختلفة من الجمهور الذي يفضل شيئاً مختلفاً لتعزيز تجربة الحفل لأنفسهم. بالتالي وجود خيارات مختلفة متاحة هو أمر ضروري.

يمكن أن نعد البرامج المجتمعية والتعليمية تجارب غامرة إذا كانت أقل من ذلك مثل العروض. الهدف من كلا النوعين من البرامج هو تزويد المستمعين بالمعرفة والوعي وتجربة الموسيقا الكلاسيكية.

 والأهم من ذلك أنها توفر أيضاً معلومات قيّمة للمنظمات الفنية وفناني الأداء عن السياق الاجتماعي الحالي، لمعرفة ما هو مطلوب من أجل إنشاء منتجات وتجارب جديدة ذات جودة ومحاكية للمجتمع(1).

في النهاية، في ظل كل هذه التحديات التي تواجهها الموسيقا الكلاسيكية في هذا الزمن، هل ستتمكن هذه الذخيرة القيّمة من النجاة والاستمرار معنا إلى المستقبل؟ 

فهي حقًا ستكون خسارة كبيرة للفن وللبشرية إذا زالت.

المصادر:

1. [Internet]. Ir.uiowa.edu. 2020 [cited 18 September 2020]. Available from: هنا

2. [Internet]. Esm.rochester.edu. 2020 [cited 26 September 2020]. Available from: هنا

3. CHALLENGES OF DEVELOPING AUDIENCES FOR SYMPHONY ORCHESTRAS IN TWENTY-FIRST CENTURY [Internet]. Pei-Yi Lin; 2020 [cited 26 September 2020]. Available from: هنا