كتاب > اكتب تكن

قراءة في كتاب (رسائل إلى روائي شاب) أسرار عالم الكتابة

في اثنتي عشرة رسالة قدَّمها الكاتب (ماريو بارغاس يوسا- Mario Vargas Liosa) لكل مبتدئ في عالم الكتابة، يشرح فيها آراءه عن أهم الصفات التي يجب أن يتحلَّى بها كل شخص يسعى إلى أن يكون كاتبًا، ويشق طريقه في هذا العالم، وعن توصيفه لبنية العمل الروائي وأساليب الكتابة وآلياتها السردية.

ويؤكد يوسا أنَّه من الخطأ عقدُ الآمال على تحقيق نجاحات عظيمة، على الرغم من عدم وجود ما يمنع ذلك، ولكنَّ هذا يحدث -عادةً- بسبب الخلط بين الميل الأدبي والميل إلى الشهرة وتحقيق مكاسب مادية.

أما من يتفادى الوقوع في هذه الدوامة فهو من يؤمن بنفسه كاتبًا لأجل الكتابة وليس لأجل غاياتٍ أخرى؛ إذ يقول يوسا: " لأن الكتابة، هي أفضل طريقة ممكنة للعيش، بصرف النظر عن النتائج الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي يمكن له أن يحققها، من خلال ما يكتبه."

وفي تفسير الميول الأدبية، لا يؤمن يوسا بأنَّ الرجال والنساء يولدون مع موهبة فذَّة تمكِّنهم من الإبداع، بالإضافة إلى أنَّه لا يؤمن -في الوقت ذاته- برأي الفيلسوف الوجودي الفرنسي( جان بول سارتر- jean paul sarter 1905-1950) بأنَّ الميل خيارٌ.

وبين هذا الرأي وذاك يبرهن يوسا بحسب مسيرة حياة كثير من الكُتَّاب بأنَّ الأمر يعتمد على استعداد فطري، ومن ثمَّ يأتي دور قرار العمل في مجال الكتابة لتطوير هذا الاستعداد الفطري، ولتخرج هذه العملية كاتبًا.

أما عن المصدر الذي يلهم الكاتب في كتابته وتكوين رواياته، فيعدُّ يوسا أنَّ روايات الكاتب كلها تعتمد على تجاربه الحياتية، على الرغم من أنَّ هذا لا يعني بأنَّ الروايات سيرةٌ ذاتية مخفية.

وينوه يوسا إلى أنَّ المواضيع التي يختارها الكاتب تكون بناءً على تلك التجارب التي تركت أثرًا عميقًا في لاوعيه؛ إذ يقول: "الروائي لا يختار موضوعاته، بل هي التي تختاره."

بالإضافة إلى أنَّ مكمن الإبداع يكون في مقدرة الكاتب على إعادة خَلْق الشخصيات والمواقف التي مرَّ بها وإحالتها إلى شيء آخر ضمن بنية الرواية المُتخيَّلة.

ويوضِّح يوسا في كتابه: "الروائي الحقيقي هو ذلك الذي ينصاع بوداعة، لتلك المتطلبات التي تفرضها عليه الحياة، بالكتابة حول هذه المواضيع، وتجنب تلك التي لا تولد بصورة حميمة من تجربته الذاتية، ولا تصل إلى وعيه بطبيعة لها طابع الضرورة"؛ أي إنَّ على الروائي أن يكتب عن تلك المواضيع التي تسكن أعماقه وتلح على الظهور دائمًا، فهي ستخرج بأقوى صورة عندما يخطُّها حروفًا على الورق لأنَّها نابعة من أصالته؛ أي من ذاته.

ويصف يوسا الروايات الجيدة: "ما ترويه تلك الروايات، والطريقة التي ترويه بها، يشكلان وحدة لا يمكن فصم عراها. وهذه الروايات جيدة لأنها تزودت، بفضل فعالية شكلها، بقوة إقناع لا تقاوم."

وهي تلك الروايات التي ينجح كُتَّابها في صياغة عالم مستقل تمامًا وبعيد عن العالم الواقعي إلى ذلك الحد الذي يجعل القارئ يندمج معها مهما بلغ واقع الرواية من الغرابة؛ كأن يتحول بطلها إلى صرصار ولا تجد غرابة في ذلك، كما في رواية المسخ لكافكا (هنا)؛ وذلك بسبب قوة الإقناع.

ولتبلغَ من الإقناع درجة عالية تجعل القارئ ينفصل عن الواقع إلى ما بين سطور الرواية، ينبغي أن تكتب بأسلوب متقن بعيد عن التكلُّف والابتذال.

"إن الأدب هو خدعة كبيرة، ولكن الأدب العظيم يتمكن من إخفاء ذلك، بينما الأدب الرديء يكشفه ويفضحه."

ويدعو كل كاتب جديد إلى اكتشاف أسلوبه الخاص، وذلك عن طريق القراءة الكثيرة واتِّباع خطى الكُتَّاب العظام؛ أمثال بورخيس وماركيز حسب رأي المؤلِّف، ولكن؛ بعيدًا عن تقليد أسلوبهم في الكتابة.

ويشرِّح يوسا العمل الروائي على نحو تفصيلي إلى أربعة عناصر وهي:

أولًا: "الراوي"، ويجب التمييز بين الراوي؛ الذي يبقى وجوده محدودًا في حدود الرواية، وبين مؤلِّف الرواية؛ أي الكاتب.

ويعدِّد يوسا أنواع الرواة ضمن الرواية بحسب الضمير المُستخدَم.

أما العنصر الثاني فهو "الزمن"، والذي يكون مُتخيلًا كما هو الراوي، وكذلك ارتباط الزمن مع العنصر الثالث وهو "المكان".

ويبقى لدينا العنصر الرابع "مستوى الواقع"؛ الذي ينقسم بدوره إلى قسمين: مستوى عالم (واقعي) ومستوى عالم (فنتازي).. ويوضِّح منهجية ارتباطها ببعضها، ويدعم شرحه بكثير من الأمثلة من أهم الأعمال الروائية.

ويتوسع يوسا في أسلوب التشريح ليصل إلى مفهوم النقلات؛ أي التبدل أو التغيير الذي ينتقل بين الرؤى الثلاث (الزمانية والمكانية ومستوى الواقع)، فعن طريق التنقُّلات المكانية؛ عندما ينتقل الراوي في المكان ويتغير معه بالنتيجة الضمير المُستخدَم، تكون فعالية هذه النقلات أكبر بقدر ما يكون تأثيرها أقوى في درجة الإقناع.

أما التنقُّلات الزمانية فتكون أقل تواترًا.

وبالنسبة إلى القفزات النوعية، فهي النقلة التي تُحدِث تبدلًا نوعيًّا في جوهر القصة كما وصفها يوسا.

أما النقلات في مستوى الواقع فتحمل صفة التعقيد أكثر من سابقاتها.

"يمكن لهذه الوسيلة نفسها أن تعمل على تعزيز قدرة الرواية على الإقناع، أو تطيح بها وتدمرها."

وفي رسالة أخرى يشرح فيها يوسا عن بنية الرواية التي تشبه العلب الصينية، أو الدمى الروسية (الماتريوشكا)، وذلك عندما تتموضع القصة الرئيسة للرواية على عدد من القصص الفرعية، وتبرز براعة كاتب العمل الروائي عن طريق التشويق والسحر والغموض؛ ليدفع القارئ إلى الانتقال من صندوق ليفتح الصندوق الآخر مع كل نقلة تشمل الرؤى الثلاث السابقة الذكر.

وعنصر آخر قلَّ استخدامه وهو (المعلومة الغامضة)، وذلك حين يروي الكاتب قصته دون توضيح لأفعال بعض الشخصيات وتصرفاتها، ويترك لخيال القارئ أن يفسر ذلك الغموض اعتمادًا على القليل من المعلومات الدلالية في الرواية.

وقبل أن ينهي رسائله، يعرِّف الكاتب المبتدئ إلى أسلوب الأواني المستطرقة؛ أي عندما يُدمَج بين واقعتين او أكثر تقع في أزمنة أو أماكن أو مستويات واقع مختلفة، ويهدف هذا الدمج إلى إضافة دلالة أو رمزية لكل منها، ويختلف عن المعنى المجرد لكل واقعة على نحو منفصل.

ويوضح يوسا أهمية استخدام هذا الأسلوب في مثال من مقطع من رواية (مدام بوفاري) عندما تنطلق ثلاثة أحداث وتتشابك تشابكًا متزامنًا، وتتطور في الوقت ذاته، بقوله: "الوحدة السردية اغتنت بذلك المزج الذي زود المجموع بتماسك ثري وأصيل."

ويستخدم أمثلة أخرى أكثر تعقيدًا لتوضيح آلية استخدام هذا الأسلوب.

وفي رسالته الأخيرة، يأتي إلى ذكر أهمية النقد للعمل الأدبي الذي يُعدُّ تمرينًا للعقل والذكاء، وإلى دحضه من جهة أخرى؛ على نحو أنَّه لا يستطيع أحد أن يقيم مستوى الإبداع ودرجته بحسب تعبير يوسا.

وينتهي إلى نصيحة مهمة مفادها: "لا يمكن لأحد أن يعلم أحدًا الإبداع. وأقصى ما يمكن تعليمه هو القراءة والكتابة. وما تبقى يعلمه المرء لنفسه بنفسه، وهو يتعثر، ويسقط وينهض دون توقف."

معلومات الكتاب: