الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع

«الانحياز اللغوي - Linguistic Intergroup Bias» ودوره في تأجيج الصراعات

يرمز الاستخدام اللغوي الدقيق إلى الكلمات التي تشير إلى معانٍ محدَّدةٍ لا تحتمل التأويل، ويُطلَق على هذا النوع من الكلمات: (الأفعال الوصفية - Descriptive Action Verbs)، فإذا قلنا  "إنَّ أحدهم ضرب شخصًا آخر"، عندها نكون قد استخدمنا فعلًا وصفيًا (ضرب) الذي يشير إلى تصرفٍ محددٍ، يلي هذا النوعَ استخدامٌ أكثر شموليةً ولكنه يحتفظ بصفة الدقة مقارنةً بالأنواع الأخرى، ويُسمَّى هذا النوع بـ:ـ (الأفعال التفسيريّة - Interpretive Action Verbs)، ويعطي هذا النوع مساحةً للتأويل على الرغم من إشارته إلى أفعالٍ محددة، فإذا استبدلنا فعلَ (آذى) بالفعل (ضرب) في مثالنا السابق؛ أي أن تصبح الجملة: "إنَّ أحدهم آذى شخصًا آخر"، نرى هنا أنَّ كلمة (آذى) أقل دقةً من سابقتها، ومن ثَمَّ أكثر شمولية، ويشير النوع الثالث إلى: (الأفعال التوصيفية - State Verbs) التي تُستخدَم لتعميم حالاتٍ سيكولوجية/ نفسيةٍ دائمةٍ لا تخضع بالضرورة لتصرفاتٍ معينةٍ أو ظروفٍ مكانيةٍ وزمانيةٍ محددة، كالقول: "إنَّ أحدهم يكره شخصًا آخر". أخيرًا؛ يُعدُّ استخدام (الصفات - Adjectives) أكثر الاستخدامات اللغوية تجريدًا وشموليةً بسبب مرونة معانيها وقابلية توظيفها للإشارة إلى أحداثٍ ومواقفَ بطريقةٍ تتعدى الخصوصية الزمانية والمكانية، كالقول: "إنَّ أحدهم يتَّصف بالعدوانية" (1,3).

لكن ما علاقة هذه الاستخدامات اللغوية المختلفة بالصراعات بين مختلف المجموعات البشرية؟ يشير الباحثون إلى أن الأفراد المنتمين إلى مجموعةٍ ما يستخدمون مستوياتٍ لغويةٍ مختلفةٍ من الدقة أو التجريد عند وصف الفعل ذاته، سواءً كان هذا الفعل مرغوبًا به من قبل المجموعة أو غير مرغوب. إذ يميل الفرد إلى وصف فعلٍ غير مرغوب به/(سلبي) بلغةٍ دقيقةٍ لا تحتمل اللبس حين يكون مرتكب هذا الفعل منتميًا إلى مجموعته نفسها، بينما يُوصَف الفعل غير المرغوب به ذاته باستخدام لغةٍ تجريديةٍ شموليةٍ عندما يرتكبه فردٌ منتمٍ إلى مجموعةٍ أخرى. من جهةٍ أخرى؛ يفضِّل الفردُ استخدامَ مستوياتٍ لغويةٍ أكثر شموليةٍ عند وصف فعلٍ مرغوبٍ به/(إيجابي) أدَّاه أحد أفراد مجموعته، بينما يُوصَف الفعل ذاته بلغةٍ دقيقةٍ حين يؤدِّيه فردٌ من مجموعةٍ أخرى. فإذا عدنا إلى الأمثلة الآنف ذكرها؛ نرى أنَّ أفراد مجموعةٍ معينةٍ قد يصفون تصرفًا فَعَلَه أحد أفراد مجموعةٍ أخرى -ولنقل الضرب- باستخدام صفة (العدوانية)؛ أي بالقول إنَّ الضارب شخصٌ عدواني، وكلمة (العدوانيّة) هي صفةٌ تجريديةٌ تعطي مساحةً للتأويل والتعميم أكثر من فعل (الضرب)، لأن هذا الفعل يصف حادثةً فرديةً بعينها وبذلك لا يُعمَّم بالضرورة على الشخص المرتكِب له. لذلك يُستخدَم فعل (الضرب) الأدقُّ لغويًا ومعنويًا ليُوصَفَ الفعلُ ذاته في حال كان الضارب فردًا يتبع للمجموعة نفسها، وذلك كي لا يُساءَ إلى المجموعة كلها التي ينتمي إليها الفرد (3,1).

ويعزو الباحثون هذا التصرفَ إلى «ظاهرة الانحياز اللغوي بين المجموعات - Linguistic Intergroup Bias»، مما يعني أن الأفراد المنتمين إلى مجموعةٍ ما يميلون إلى اختيار تعابيرَ لغويةٍ تعكس مدى حرصهم على تحسين سمعة مجموعتهم من خلال صبغ الأفعال الإيجابية لأحد أفراد مجموعتهم بطابع العمومية التي تنسحب على باقي أعضاء المجموعة، وفي الوقت ذاته وصف الأفعال السلبية من قبل أفراد مجموعتهم بلغةٍ محددةٍ كي لا تُعمَّم هذه الأفعال على باقي الأعضاء. بينما يُعكَس هذا التصرف تمامًا حين يأتي الأمر إلى أفراد مجموعةٍ أخرى؛ إذ تُوصَف أفعالهم الإيجابية بالدقة وتُستخدَم اللغةُ التجريديةُ حين يكون الحديث عن أفعالهم السلبية. ويؤدي هذا التصرف إلى تقييد الأفعال الإيجابية ونسْبِها حصرًا إلى الفرد صاحب الفعل (أي أنَّ الفعل الإيجابي لا يُعمَّم على باقي أفراد مجموعته)، بينما تُعمَّم الأفعال السلبية التي قام بها فردٌ واحدٌ فقط على باقي مجموعته (1). نتيجةً لذلك؛ يساهم هذا الاستخدام اللغوي المُنحاز في تعزيز الصور النمطية هنا السلبية وتعميمها لتشمل أفراد المجموعة الأخرى كلهم، مما يُسبِّب نشوءَ التمييز العنصري بين المجموعات المختلفة، الشيء الذي يساهم في تعميق الشرخ الاجتماعي والإنساني بين مختلف المجموعات البشرية، ويؤدي هذا الشرخ بدوره إلى تعزيز «ظاهرة الانحياز اللغوي»، أي أننا ندور هنا في حلقةٍ مفرغةٍ تتكوَّن من الانحياز اللغوي والتمييز العنصري وسوء الفهم بين المجموعات البشرية المختلفة (3).

أخيرًا؛ تجدر الإشارة إلى أنَّه من الممكن أن يساهم التواصل البشري بين مختلف المجموعات في تخفيف أثر الانحياز اللغوي؛ إذ وجد الباحثون أن الاحتكاك الإيجابي بين الأفراد المنتمين إلى مجموعاتٍ مختلفةٍ قد يولِّد ذكرياتٍ حسنةٍ تساعد على التخلص من الاستخدام المُنحاز للُّغة، أو الوقاية من هذا الانحياز مستقبلا (2)؛ مما يعني وصف التصرفات السلبية التي يقوم بها الأفراد المنتمين إلى المجموعات الأخرى وصفًا دقيقًا لا يدع مجالًا للتعميم غير المُبرَّر. إذ يساهم هذا الشيء في الحد من انتشار الصور النمطية السلبية وتعميمها على مجموعاتٍ بأكملها، وهو التصرف الذي يغفل عن أخْذ حقيقة التنوع البشري في الحسبان حتى داخل المجموعة الواحدة.

المصادر:

1. Maass, Anne; Salvi, Daniela; Arcuri, Luciano; Semin, Gün. Language use in intergroup contexts: The linguistic intergroup bias. Journal of Personality and Social Psychology. 1989;57(6): 981-993

هنا

2. Prati, Francesca; Moscatelli, Silvia; Hewstone, Miles; Rubini, Monica. The effects of recalling positive and negative contacts on linguistic discrimination towards migrant people. Journal of Experimental Social Psychology. 2020; 89: 1-11

هنا

3. Maass, Anne. Linguistic intergroup bias: Stereotype perpetuation through language. Advances in Experimental Social Psychology. Academic Press. 1999;31: 79-121

هنا