البيولوجيا والتطوّر > علم الجينات

كيف يبني التطور الجينات من الصفر؟

لطالما افترض العلماء أنَّ الجينات الجديدة تظهر عندما يعبث التطور بالجينات القديمة، ولكن؛ اتَّضح أنَّ الانتقاء الطبيعي أكثر إبداعًا.

ولتبسيط الموضوع، دعونا نذهب إلى المحيط المتجمد الشمالي حيث يمكن أن تنخفض حرارة المياه في الشتاء إلى ما دون الصفر، وهذه الدرجة باردة بما يكفي لتجميد أسماك عديدة، ولكن؛ هذه الظروف لا تزعج سمك القد (cod)؛ إذ يرتبط بروتين موجود في دمها وأنسجتها ببلورات الثلج الصغيرة ويمنعها من الازدياد.

فمن أين اكتسبت أسماك القد هذه الموهبة؟ هذا اللغز الذي أرادت أخصائية علمالأحياء التطوري في جامعة أوسلو (هيلي بالسرود) (Helle Tessand Baalsrud) حلَّه. 

ولذلك، بحثت وفريقها  في جينومات سمك القد الأطلسي (Gadus morhua) وعديدٍ من الأنواع القريبة معتقدين أنَّهم سيتعقبون الجينات القريبة من الجين المضاد للتجمد، ولكنَّهم، لم يتوصلوا إلى أيَّة نتيجة.

وعثرت بعد ذلك (Baalsrud) على دراسات تشير إلى أنَّ الجينات لا تتطوَّر دائمًا من الجينات الموجودة أساسًا كما افترض علماء الأحياء منذ فترة طويلة. وبدلًا من ذلك، صُمِّم بعضها من مساحات مقفرة من الجينوم لا ترمز إلى أيَّة جزيئات وظيفية (1). (يتكون قرابة 1% من الـDNA فحسب من جينات ترمِّز بروتينًا، والـ99% الأخرى لا ترمِّز أيَّ بروتين؛ أي لا يوفر الـDNA غير المشفَّر تعليمات لصنع البروتينات، ولكنَّه جزء لا يتجزأ من وظيفة الخلايا، وخاصةً التحكُّم في النشاط الوراثي) (4). 

وعندما نظرت (Baalsrud) إلى جينوم الأسماك، وجدت إشارات قد تكون الحل لهذه الحالة؛ إذ توصَّل باحث آخر إلى نتيجة مماثلة: على ما يبدو أنَّ البروتين المضاد للتجمد -الضروري لبقاء سمك القد على قيد الحياة- أُنشِئ من الصفر (1,2).

وفي السنوات الخمس الماضية، وجد الباحثون علامات عديدة على وجود هذه الجينات الجديدة التي دُعيَت "de novo" وتعني (البدء من جديد) في كل سلالة فحصوها، بما فيها كائنات مثل ذباب الفاكهة والفئران ونباتات المحاصيل والبشر، وبعض هذه الجينات يٌعبَّر عنها في الدماغ وأنسجة الخصية، والبعض الآخر ضمن أنواع مختلفة من السرطان (1).

Credit: Nik Spencer/Nature

تتضمن الجينومات أكثر بكثير من الجينات فحسب. وفي الواقع، فإنَّ نسبة قليلة من الجينوم البشري -على سبيل المثال- يشفِّر الجينات وحسب.

وهناك امتدادات كبيرة من الحمض النووي - غالبًا ما يُطلق عليها (junk DNA) "الحمض النووي غير المرغوب فيه"- تفتقر إلى أيَّة وظيفة. 

وتشترك بعض هذه الامتدادات  مع الجينات التي تشفِّر البروتين بميزات معينة دون أن تكون في الواقع جينات: فعلى سبيل المثال؛ هي مليئة بالكودونات (codons) شيفرات وراثية (سلسلة من ثلاثة نيوكليوتيدات DNA أو RNA تتوافق مع حمض أميني محدد أو إشارة توقف في أثناء تشكيل البروتين. 

إنَّ جزيئات DNA وRNA مكتوبة بلغة  من أربعة نيوكليوتيدات. 

وفي الوقت نفسه، تحتوي لغة البروتينات على 20 حمضًا أمينيًّا. 

وتوفر Codons المفتاح الذي يسمح بترجمة هاتين اللغتين إلى بعضهما البعض، ويتوافق كل codon مع حمض أميني واحد أو إشارة توقف، وتُسمى مجموعة كاملة من الــcodons بالشيفرات الوراثية) (5). 

وهذه الــcodons يمكنها -نظريًّا- أن تأمر الخلية بترجمة الشيفرة إلى بروتين (1).

وتحثُّ فكرة جينات de novo على إعادة التفكير في بعض أجزاء نظرية التطور. 

وكان المتعارف عليه أنَّ الجينات الجديدة تظهر عندما تتضاعف الجينات الموجودة أصلًا على نحوٍ خاطئ أو تتفكك أو تُمزج مع غيرها، أما الآن، يعتقد بعض الباحثين أنَّ جينات de novo يمكن أن تكون شائعة جدًّا؛ إذ تشير بعض الدراسات إلى أنَّه يمكن  لعُشر الجينات على الأقل أن تتشكل بهذه الطريقة، ويقدِّر آخرون أنَّ عدد الجينات التي يمكن أن يظهر على نحوٍ مشابه لجينات de novo؛ (أي من المساحات المقفرة في الجينوم) أكثر من الطريقة المتعارف عليها سابقًا (1,2).

يقول يونغ زانغ (Yong Zhang)؛ عالم الوراثة في معهد علم الحيوان التابع للأكاديمية الصينية للعلوم في بكين، والذي درس دور جينات de novo في الدماغ البشري: يعود السبب في قدرة الكائنات الحية على الحصول على جينات جديدة بهذه الطريقة إلى "مرونة التطور في جعل مايبدو مستحيلًا .. ممكنًا" (1,2).

ولم يتوصل الباحثون بعد إلى كيفية تحديد الجين نهائيًّا؛ كونه de novo، وما تزال هناك أسئلة عن كيفية نشأة هذه الجينات وعدد المرات. 

ويتساءل العلماء أيضًا لماذا يتكبد التطور عناء صُنْع الجينات من نقطة الصفر بينما توجد بالفعل كثيرٌ من المواد الجاهزة لبناء الجينات. 

إنَّ هذه الأسئلة الأساسية هي علامة على مدى حيوية هذا المجال، وتقول (Baalsrud): "ليس عليك العودة إلى تلك السنوات الماضية عندما لم يُؤخذ تطور جينات de novo بعين النظر" (1,2).

فقد شُخِّصت بعض الجينات من نوع de novo في الإنسان أيضًا، وقد بدأ الباحثون بدراستها فعلًا، ووجدوا أنَّ إحدى تلك الجينات يُعبَّر عنها بمستويات عالية في أدمغة الأشخاص المصابين بالألزهايمر. 

بالإضافة إلى أنَّ لدراسة جينات de novo في الإنسان أثرها في فهم السرطان؛ فإحدى هذه الجينات -التي ينحصر وجودها في الإنسان والشمبانزي فحسب- يُعتقد بارتباطها بتطور السرطان في الفئران المختبرية. 

وتحتوي فيروسات الورم الحليمي البشرية human papillomavirus -المُسبِّبة للسرطان في الإنسان- على جين من نوع de novo غير موجود في الأشكال غير المُسبِّبة للسرطان من الفيروس نفسه.

وعلى الرغم من عدم وضوح علاقة جينات de novo مع الصحة والأمراض، ولكنَّ وجودها يشير في حد ذاته إلى حقيقة أنَّ التطور قادر على إنشاء شيء من لا شيء (1).

المصادر:

  1. Levy A. How evolution builds genes from scratch. Nature. 2019;574(7778):314-316.هنا
  2. Levy A. Can New Genes Emerge from Scratch? | Evolution News [Internet]. Evolution News. 2020 [cited 27 June 2020]. Available from: هنا
  3. Levy A. How evolution builds genes from scratch. Nature. 2019;574(7778):314-316.هنا
  4. What is noncoding DNA? [Internet]. Genetics Home Reference. 2020 [cited 23 June 2020]. Available from: هنا
  5. codon | Learn Science at Scitable [Internet]. Nature.com. 2014 [cited 27 June 2020]. Available from: هنا