النهضة الأقل شهرة عصر النهضة الشمالية في القرن الخامس عشر

تاريخ النهضة الشمالية (Northern Renaissance): 

عصر النهضة الشمالية هو فترة تبنَّى فيها فنانون في شمال جبال الألب، أي في البلدان المنخفضة (هولندا وبلجيكا) وفي ألمانيا وفرنسا وإنكلترا، أفكارَ النهضة الإيطالية وعملوا على تكييفها.

يتميز هذا العصر بنهجٍ واقعيٍّ للرسم، وتقنيات محسنة، وتميَّز أيضًا بانتشار الطباعة (Printmaking)، وبحلول بداية القرن الخامس عشر كانت العصور المظلمة في أوروبا (نحو 500-1000م) تقترب من نهايتها. وفي خلال هذا الوقت كان الفن في أوروبا عادة دينيًّا، وعلى الرغم من تقديمه في كثير من الأحيان بتفاصيل معبرة، فقد أظهر قليلًا من الاهتمام بالمنظور والواقعية البشرية، ومع ذلم بدأ الفنانون الإيطاليون قرابة عام 400 بمحاكاة النحت الكلاسيكي في عملهم (1).

بدأت الأذواق الفنية في جميع أنحاء أوروبا بالتحول، وأدى هذا التغيُّر إلى فترة تُعرف باسم عصر النهضة (Renaissance)، وهو عصر ذهبي للتنوير عمره 300 عام. 

وبفضل اختراع آلة الطباعة الكابسة (Printing Press) بعد 50 عامًا انتشرت أفكار النهضة في جميع أنحاء القارة، الأمر الذي ألهم الفنانين الشماليين بتبنِّي نهجٍ مماثلٍ في التمثيل الفني، وقد جسَّد ألبريشت دورر (Albrecht Dürer) -وهو رسام وحفار ألماني كان يعرف عديدًا من فنَّاني عصر النهضة الإيطالية شخصيًّا- جسَّد هذا التصوُّرَ ذاكرًا بأن الفنَّ الجديد يجب أن يقوم على العلم (1).

بيتر بروخل الأكبر (Peter Bruegel the Elder)، سقوط إيكاروس (The Fall of Icarus)، عام 1558

ولذلك غالبًا ما ترتبط هذه الفترة من تاريخ الفن الأوروبي لدى كثيرٍ من الناس فقط بأسياد عصر النهضة الإيطالية (Italian Renaissance)، مثل مايكل أنجلو (Michel Angelo) وليوناردو دا فينشي (Leonardo Da Vinci) وساندرو بوتيتشيلي (Sandro Botticelli)، ولكن هذا التحول أثَّر في عديدٍ من البلدان في جميع أنحاء القارة، وبلغت ذروته في حركة منفصلة ولكنها كانت متزامنة وتعرف باسم عصر النهضة الشمالية Northern Renaissance (1).

إنجازات النهضة الشمالية وصفاتها المميزة:

في حين أن عصر النهضة الإيطالية معروف بتقدُّمه في اللون، والفهم الدقيق للتشريح، والاهتمام المطور بالموضوعات العَلمانية، فإن الحركة الفنية في البلدان الشمالية مشهورة بلوحات المذبح التي توضع في الكنيسة خلف المذبح وتتميز بواقعيتها، كذلك اشتهرت هذه الحركة بالصور الشخصية (Portraits)، وباستخدامٍ رائعٍ لريشة الرسم وضرباتها وبتعميم المطبوعات وشهرتها (2).

وعلى عكس الفنانين الإيطاليين الذين ابتعدوا عن الأيقونات الدينية، واصل عديدٌ من الفنانين الشماليين إنتاجَ لوحات المذبح الكنسيَّة في خلال عصر النهضة، وكانت هذه اللوحات -على عكس الأعمال التي طلبتها الكنيسة مسبقًا التي تضمَّنت منظورًا مسطحًا وشخصيات منمَّقة وخلفيات بطابع روحاني- كانت تُظهر اهتمامًا بالعمق والمنظور وبالناس الواقعيين وبالمشاهد المأخوذة من الحياة اليومية (2).

(Robert Campin) روبرت كامبين، (The Merode Altarpiece)، اللوحة غير مؤرخة، متحف الميتروبوليتان للفن (The Metropolitan Museum of Art).

إن هذا التركيز على إبراز ملامح الحياة اليومية موجودٌ أيضًا في لوحات الفنان بيتر بروخل الأكبر (Pieter Bruegel the Elder)، وهو فنان هولندي تُجسِّد لوحاتُه التي صوَّر فيها الفلاحين والناس من الطبقة العاملة اهتمامَ النهضة الشمالية بالموضوعات الدنيوية في هيئتها الواقعية غير المنمَّقة وتقديرَها لهذه الموضوعات (2).

رسم بروخل الأكبر لوحته الرائعة "الأمثال الشعبية الهولندية"، وهي تحفة مفعمة بالتفاصيل تصور أكثر من 100 مثل شعبي هولندي. يشتهر بروخل بعمله المفصل بإتقان، وما يبدو هنا وكأنه في البداية مشهد بسيط لقرية مع مجموعة واسعة من الشخصيات، سرعان ما يُدهشنا عندما نمعن في النظر ليظهر بأنه أكثر من ذلك بتفاصيله الدقيقة (3).

الأمثال الشعبية الهولندية The Netherlandish Proverbs، بيتر بروخل الأكبر Pieter Bruegel the Elder، ألوان زيتية على خشب، 1559.

وبالإضافة إلى ذلك فقد طبق فنانو عصر النهضة الشمالية هذا التقدير الجديد للواقعية على أعمال الصور الشخصية، كما هو واضح في لوحة يان فان إيك (Jan Van Eyck) المشهورة، "بورتريه أرنولفيني" (Arnolfini Portrait). بالإضافة إلى كون الشخصيات المرسومة عَلمانيًّة (أي غير دينية) تمتاز هذه اللوحة بأبعادها، ودرجاتها اللونية، ودقة تفاصيلها، ما يضفي جانبًا من جوانب الواقعية الحقيقية إلى المشهد (2).

يان فان إيك Jan Van Eyck، بورتريه أرنولفيني The Arnolfini Portrait، تيمبرا وألوان زيتية على خشب، 82.2* 60 سم، عام 1434، المتحف الوطني في المملكة المتحدة National Gallery, UK.

 في خلال العصور الوسطى، استخدم معظم الفنانين ألوان التمبرا (Tempera Paint)، وهي مادة مصنوعة من صفار البيض الممزوج بمسحوق الصبغة اللونية. لم يكن هذا النوع من الطلاء مثاليًّا لفناني عصر النهضة لأن طبيعته سريعة الجفاف لم تسمح لهم بتحقيق قدر كبير من الدرجات اللونية أو الملمس أو التفاصيل الدقيقة (2).

ومع وجود يان فان إيك في المقدمة، بدأ الفنانون الشماليون أيضًا بتجربة طرائق جديدة للرسم (2)؛ وبالرغم من أنه لم يخترع الألوان الزيتية، فقد استخدمها بتأثير أكبر وأفضل من أي فنان في ذلك الوقت،

ومنذ حين، بدأت رحلة الألوان الزيتية بكونها المادة المفضلة على مدى قرون عدة (4). وهكذا تحوَّل الفنانون إلى استخدام الألوان الزيتية، مما مكنهم من مزج طبقات الطلاء على نحوِ جميل ومزج الألوان على قماش اللوحة مباشرة (2).

يان فان إيك Jan Van Eyck، البشارة The Annunciation، عام 1434-1436.

وكما سنرى أدناه، تعطينا هذه اللوحة الأخيرة مثالًا آخر على الطريقة التي وحدت بها النهضة الشمالية العالمَ المقدس والعالم الأرضي العلماني في لوحة واحدة؛ فاللوحة قد تكون صورة لرجل كان صائغًا. لقد فسر عديد من المؤرخين هذه اللوحة -على نحوٍ مقنع للغاية- على أنها لوحة تمثل الحكم الأخير The Last Judgement. وفي الوقت نفسه لا ينبغي لنا أن نتجاهل حقيقة أن اللوحة تعطينا رؤية حية ومفصلة للغاية للحياة اليومية التجارية. وسواء أكانت هذه اللوحة عن الحكم الأخير أم لا، فإنها أيضًا لوحة تمثل العمل والمهنة، وفي هذه الحالة، عمل الصائغ. يربط فان إيك الصائغَ بالقديس وذلك حتى في اسم اللوحة، وتشير المهنة هنا إلى مكانته، وأهدافه في الحياة، وأخلاقه، ولكنها توضح لنا أيضًا الصائغَ بصفته إنسانًا في مكان عمله ومحاطًا بأدواته، مما يجعل اللوحة بكل تفاصيلها تتحدث عن المهنة بمعنى يومي واقعي أكثر بكثير من مجرد رسم يمثل طبيعة المهنة فقط (5).

بيتروس كريستوس: القديس إيلوي (إيليجيوس) في متجره، Petrus Christus: Saint Eloy (Eliguis) in His Shop. عام 1449.

وبالإضافة إلى الرسم، جرب الفنانون الشماليون ممارسةً فنية أخرى كالطباعة Printmaking، وفي حين أنتجت ألمانيا وفرنسا أوراق اللعب باستخدام تقنية الطباعة عن طريق قطع خشبية يدوية تلوَّن باليد وذلك في أوائل القرن الخامس عشر، أصبحت الطباعة أكثر شعبية في العقود التالية بفضل أعمال الحفر والطباعة التي أنجزها الفنان ألبريشت دورر (2).

وعلى الرغم من أن عصر النهضة الشمالية انتهى نحو عام 1700، فقد أدى دورًا مهمًّا في الحركات الفنية التي تلته في أوروبا وخارجها؛ ففي الفن الحديث يتضح تأثير النهضة الشمالية في شهرة الطباعة، في حين يمكن إرجاع ميل الفنانين المعاصرين إلى الواقعية إلى لوحات فان إيك. وهكذا، وعلى الرغم من أن النهضة الشمالية ليست معروفة على نطاق واسع كما هو حال النهضة الإيطالية، فقد كانت مؤثرة على نحوٍ كبير في الفنون التي تلتها وملهِمة لها (2).

المصادر: