الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة الغربية

الثنائية الديكارتية بين الذهن والمادة

تُعدُّ الثنائية الجوهرية (Substance Dualism) واحدة من أشهر أطروحات رينيه ديكارت (René Descartes 1596-1650)، وتقوم الفكرة على تقسيم العالم إلى نوعين من الكينونات هما: الكينونات أو الجواهر الذهنية (mental substances)، والكينونات أو الجواهر الفيزيائية أو المادية (physical substances). جوهر الذهني هو الوعي أو التفكير، وجوهر الجسمي هو الامتداد في المكاني ثلاثي الأبعاد (1).

أقام ديكارت ثنائيته على عدة حجج من أهمها:

1-    حجة المعقولية (Conceivability Argument): التي رأى بموجبها أنه بإمكانه أن يدرك بوضوح وجلاء إمكانية وجوده دون جسد؛ وهكذا إذا أمكنه أن يتخيل وجوده غير المتجسد في أي مادة؛ وبذلك لا يمكنه أن يكون هو وجسده الشيء ذاته (2).

2-    حجة الشفافية (Transparency Argument): وفقًا لهذه الحجة، الذهن شفاف، بمعنى؛ إذا كان ذهني شفافًا بالنسبة إلي فهذا يعني أنه لا يمكن أن يكون ثمة شيئًا ما في ذهني دون أن ألاحظ وجوده هناك. أما جسدي فليس شفافًا بالنسبة إلي بالطريقة ذاتها، وهكذا لا يكون ذهني وجسدي متماثلين، أي إنهما لا يكونان الشيء ذاته (3).

أدّت الثنائية الديكارتية دورًا مهمًّا في القرن السابع عشر بسبب التهديدات التي وجهتها الاكتشافات العلمية في هذه الفترة إلى الدين؛ إذ بدأ النزاع بين الإيمان والمنطق، تمثل الحل الديكارتي في جعل العالم المادي ضمن نطاق اختصاص العلماء، والعالم الذهني ضمن نطاق اختصاص اللاهوتيين؛ إذ عُدَّت الأذهان أو العقول أرواحًا خالدة لا تخضع للبحث العلمي، في حين تخضع الأجسام لدراسة علوم البيولوجيا والفيزياء والفلك. ويمكن للفلاسفة وحدهم دراسة العقل والجسد على حد سواء. ويرجع هذا التقسيم إلى الخواص التي يمتاز بها كل جوهر، فالأجسام المادية قابلة للانقسام إلى أجزاء أصغر؛ وبذلك يمكن أن يخضع كل جسم للتدمير، أما الأذهان فهي غير قابلة للانقسام وبذلك فهي خالدة، وأنَّ الأجسام تحكمها قوانين الفيزياء، لكن الأذهان تمتلك إرادة حرة (1).

أدى التصور الديكارتي إلى مشكلة العقل -الجسد- أو ما يعرف بمشكلة التفاعل بين العقل والجسم- وتتمحور عن طبيعة العلاقة بين الذهني والجسدي والكيفية التي يمكن لأحدهما أن يسبب تأثيرًا في الآخر إذا كانا جوهرين مختلفين تمامًا؟ كيف يمكن لشيء غير مادي أن يؤثر فيما هو مادي؟ وكيف يمكن لما هو مادي أن يؤثر في الذهن غير المادي؟ (1).

إجابة ديكارت عن الأسئلة السابقة هي أن التفاعل بين النفس غير الفيزيائية وجسدها الفيزيائي يحدث في عضو معين موجود في منتصف الدماغ، وهو الغدة الصنوبرية (pineal gland). وقد بدا له هذا المكان على أنه المكان الأمثل للتفاعل بين الدماغ والعقل. ليس فقط بسبب موقع الغدة المركزي في الدماغ، ولكن بسبب وجودها المنفرد أيضًا؛ إذ يتكرر وجود مكونات الدماغ الأخرى في نصفي الدماغ، وبذلك اعتقد أن الغدة الصنوبرية يمكنها أن تعمل مركزَ تحكم موحد للدماغ والجهاز العصبي بأكمله. وعَدَّ ديكارت الجهازَ العصبي شيئًا شبيهًا بشبكة أنابيب وصمامات تعمل بتوافق عبر المبادئ الهيدروليكية، مع الشعيرات العصبية التي توصل كميات مما يسميه "بالأرواح الحيوانية" إلى الجسد وعبره. واعتُقِد أن هذه الأرواح الحيوانية خفيفة كمكون خفيف وكثير الحركة، قادر على الجريان بسرعة وحرية عبر المسام الدقيقة في الشعيرات العصبية. (وهكذا لم يكن المقصود بمفردة "أرواح" في سياقها الإشارة إلى شيء غير مادي في طبيعته.) اعتقد ديكارت أنه عندما تجري هذه الأرواح الحيوانية عبر الشعيرات العصبية في منطقة الغدة الصنوبرية، يمكن للنفس غير الفيزيائية أن تعدل بنحو طفيف من اتجاه جريانها، وبذلك تتسبب في تنوع لحركاتها، يمكن لهذه التنوعات بعد نقلها عبر الشعيرات العصبية لحدود الجسد القصوى، أن تقوم بتنوعات مصاحبة في حركات أطراف الشخص. في الاتجاه المقابل الحركات في الأرواح الحيوانية في حدود الجسد القصوى، تحدث عن طريق التأثير في الأشياء الخارجية بنحو يمكن نقلها إلى المنطقة المركزية للدماغ وهناك -كما يفترض ديكارت- تتسبب في مرور الشخص بخبرات ملائمة كالألم والسرور (2).

تواجه الثنائية الديكارتية اعتراضات من دعاة المادية (physicalism)، التي تفسر الموجودات والظواهر بالمكون المادي فقط. أهم الاعتراضات هي:

1-    اختراق مبدأ نصل أوكام (Ockham's razor principle): وهو مبدأ منهجي عقلاني، يرى بعدم جواز استخدام أكثر من الكينونات الضرورية اللازمة لتفسير ظاهرة ما. وتخترق الثنائية هذا المبدأ عندما تفترض وجود جوهرين مختلفين هما: العقل والجسد لتفسير الظواهر، في المقابل تلتزم المادية بهذا المبدأ (4).

2-    ضعف القدرة التفسيرية للثنائية مقارنة بالمادية المعاصرة:

يمثل علم الأعصاب المادية المعاصرة، ويمكنه أن يخبرنا عن مكونات الدماغ والقوانين التي تحكمه، ويمكنه تفسير كثير من السلوكيات ضمن الخصائص الكيميائية والكهربائية والبنائية للدماغ، في المقابل تعجز الثنائية عن إخبارنا عن المكونات الذهنية والقوانين اللامادية التي تحكمه، ولا يمكنه تقديم تفسير للقدرات والأمراض الذهنية (4).

المصادر:

1- Searle, John R. (2004). Mind: A Brief Introduction. Oxford University Press. Pp. 13-15,17.

2- Lowe, E, J. (2004). an introduction to philosophy of mind. Cambridge university press, p11, 22-24.

3- Loose, Jonathan J. et al (2018). The Blackwell companion to substance dualism. Wiley Blackwell. P 155.

4- Churchland, Paul M. (2013). Matter and consciousness, 3rd edition, MIT press. P 29,31.