كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (غرق الحضارات): من الازدهار نحو الانحلال

منذ أكثر من عشرين سنة أبدى الكاتب (أمين معلوف Amin Maalouf) اهتمامًا كبيرًا بالتحولات الكبرى التي يشهدها العالم.

فبعد  كتاب (اختلال العالم) وكتاب (الهويات القاتلة هنا) يشرح لنا اليوم في (غرق الحضارات) خطر تعرُّض الحضارات الإنسانية للغرق في انحلال القيم، وتدهور ثقافتها ومعالمها حدَّ الزوال، وذلك عن طريق سرده لوقائع سياسية وعسكرية مهمة شهدها محاولًا معرفة كيف انتهى المطاف بالحضارة الإنسانية إلى هنا، وكيف احترق فردوس الشرق في مصر ولبنان وسورية والعراق؛ هذه البلدان التي مثَّلت سابقًا منبعَ الأدب والحضارة والتعددية الحزبية والدينية، ولكنَّ الحروب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي دفع هذه الحضارة العريقة إلى التدهور، يقول معلوف:

"لم أعرف الشرق في أوج عظمته فلقد جئت بعد فوات الأوان ولم يبق من المسرح سوى ديكور متهالك ولم يبق من الوليمة سوى الفتات غير أني كنت أرجو دوماً أن يستأنف الحفل يوماً."

بهذه العبارة يستحضر الكاتب ذكريات أبيه وأمه في مصر حيث قضى فترة طفولته قبل أن تُجبَر عائلته على الرحيل عنها بعد مناداة جمال عبد الناصر بضرورة التأميم واستعادة الممتلكات المصرية من الرعايا الأجانب.

ويرى الكاتب أنَّ هذه السياسة كانت بذرة دَفْع مصر نحو الهاوية؛ إذ يقول: "أساءت موجات الطرد الجماعي إلى من بقوا أكثر مما أساءت لمن طردوا، لا شك أن المطرودين يعانون في البداية لكنهم يتغلبون على صدمتهم وغالباً يحققون أعظم فائدة للبلدان التي استقبلتهم." 

ويذكر مثال طَرْد فرنسا  لبعض الأقليات الدينية  كالهوغونو؛ الأمر الذي أدى إلى إثراء البلدان التي استقبلتهم مثل برلين وأمستردام وإفقار فرنسا. 

بالإضافة إلى أنَّ (نيسلون مانديلا Nelson Mandela-1918-2013) لم يأمر بإخلاء السكان ذوي البشرة البيضاء خارج القارة العجوز بعد انتصاره بل سعى إلى ترسيخ السلام حينها. 

وعلى الرغم من عداء عائلة (أمين معلوف) لجمال عبد الناصر ولكنَّ (معلوف) -مع اعترافه أنَّ جمال ارتكب أخطاء جسيمة إلى جانب احتجاز الملكيات من تكميم الصحافة وإلغاء تعددية الأحزاب- لا يكفُّ عن التذكير بأهمية هذا الرجل، فيقول في ذلك: "لم يستطع أي قائد عربي أن يستثير تلك الآمال العظيمة مثلما فعل ذلك الضابط الثلاثيني الوسيم بصوته المعسكر وخطاباته الواعدة."

ثم ينتقل الكاتب ليصور لنا اليأس الذي يغلِّف الواقع العربي اليوم، والذي بات يقود إلى حالات انتحار لمن لم يجد أدنى مقومات الحياة التي يستحقها من سعادة  ووفرة وكرامة. وبدأ هذا الإحباط -حسب رأي معلوف- منذ نكسة حزيران عام 1967 بعد الهزيمة التي طالت الجيوش العربية حينها، ولكنَّ العرب لم يصحوا وينهضوا بعد خسارتهم، على عكس ما تعنيه كلمة (نكسة) لغويًّا.

"الأسوأ بالنسبة للمهزوم ليست الهزيمة نفسها بل أن يصنع منها متلازمة المهزوم الأبدي فينتهي به الأمر أن يكره البشرية جمعاء ويدمر نفسه." 

ويرى معلوف أنَّ روحًا جديدة اكتسبها العالم في العقود الأخيرة؛ فالثورات كانت روح العصر وهذا الأمر يلوِّح إلى تراجع هيمنة الدولة بوصفها هيئة منظمة للاقتصاد، ويفتح الأبواب لظهور اقتصاد الأسواق الحرة الذي يعزز التفاوتات الطبقية والاجتماعية ويجعل الناس يتقبَّلونها دون سخط، ويقول الكاتب لتوضيح فكرته: "مداخيل لاعبي كرة القدم أو الممثلين لم تعد تثير الاستهجان  فلا أحد يتوقع بعد اليوم انتفاض المستضعفين في الأرض، وسيكون من المخيف أن ينتفض هؤلاء يوماً، فهذه الانتفاضة ستؤدي فحسب إلى حمام دم هائل."

إذا كانت سفينة الحضارة اليوم تبحر نحو هلاكها فنحن بحاجة إلى ربان يوجه السفينة ويمسك بزمام الأمور، وفي ظل غياب أيِّ ربان يقول الكاتب: "إننا دخلنا في منطقة مضطربة لا يمكن التنبؤ بها ويبدو أن مصيرها أن تستمر وتطول، لم يعد معظم أبناء عصرنا يؤمنون بمستقبل من التقدم والرخاء، أصبحت جميع الانحرافات ممكنة وليس بمقدور أي مؤسسة أو أي نظام أو أي حضارة اجتياز هذه الاضطرابات والبقاء بمأمن من الأذى."

معلومات الكتاب:

المؤلّف: أمين معلوف

العنوان: غرق الحضارات

الناشر: دار الفارابي (2019)

عدد الصفحات: 319