العمارة والتشييد > التشييد

الخرسانة ذاتية الاستشعار

على الرُّغم من كون الخرسانة مادةً رائدةً في صناعة البناء في جميع أنحاء العالم، واستخدامها الواسع النطاق في المباني والبنى التحتية، تُعَدُّ الخرسانة عرضةً للشيخوخة والتدهور؛ ممَّا يؤدي إلى طرح الأسئلة باستمرار عن عمرها الافتراضي وقابليتها للتشغيل والاستخدام (1).

وقد يساهم التصميم الإنشائي الجيد في تجنُّب حوادث ومشكلات المنشآت الخرسانية في أثناء مرحلة التشغيل، ولكن تبقى بعض الظروف غير المتوقعة التي تهدِّد أمان المنشآت الخرسانية ممَّا يستدعي مراقبة أدائها باستمرار (2).

ويمكن تطبيق أنظمة مراقبة الصحة الإنشائية (Structural Health Monitoring (SHM) systems) لتأمين عمليةٍ مؤتمتة عن طريق ربط مجموعةٍ من المستشعرات لرصد أداء المنشأة، ولكن تواجه هذه الطريقة العديد من العقبات؛ كمتانتها المحدودة، ومشكلات إرسال البيانات، وصعوبة الوصول إليها وتطبيقها في المنشآت الضخمة، ومتطلبات الصيانة الواسعة (1).

ومن أجل تحقيق إمكانات أفضل لحلول مراقبة الصحة الإنشائية (Structural Health Monitoring) للمنشآت الخرسانية كان من الضروري تطوير حلول استشعار مصمَّمة خصيصًا، ومن هذه الحلول الخرسانة ذاتية الاستشعار (Self-Sensing Concrete) (1).

تُعرَّف الخرسانة ذاتية الاستشعار بأنها مادةٌ إنشائيةٌ لديها القدرة على استشعار ظروف الخرسانة والعوامل البيئية كالإجهاد والتشوُّه والتشقُّقات والحرارة والرطوبة، دون الحاجة إلى تركيب أجهزة استشعارٍ خارجية، وتُصنَّع عن طريق دمج بعض الحشوات الوظيفية الناقلة (Functional Fillers) مع المادة الخرسانيَّة الأساسية، وتُعَدُّ هذه الحشوات عنصرًا أساسيًّا كونها المسؤولة عن خاصية الاستشعار(3)؛ إذ تتوزَّع هذه الحشوات في المادة الخرسانيّة لتشكِّل شبكةً ناقلة (4).

يحاول الباحثون باستمرار تطوير حشواتٍ وظيفيةٍ جديدةٍ يمكنها منح الخرسانة أداءً عاليًا للاستشعار الذاتي، ومن أهم أنواع هذه الحشوات الوظيفية:

1- ألياف الفولاذ (Steel Fibers): تُعرَّف ألياف الفولاذ المستخدمة لتقوية الخرسانة بأنَّها ألياف قصيرة وغير مترابطة بمقاطع عرضية مختلفة، وهي صغيرةٌ بما يكفي لتتوزَّع عشوائيًّا في الخلطة الخرسانية، ويمكن أن تُسبِّب حدوث تغيراتٍ نوعيةٍ في الخواص الفيزيائية للخرسانة مما يزيد متانتها ومقاومتها للتشقق والصدمات على نحوٍ ملحوظ (3).

2- أسود الكربون (Carbon Black): هو شكل من أشكال الكربون غير المتبلور المعروف بمساحة سطحه المرتفعة بالنسبة إلى حجمه، ويتراوح متوسِّط أقطار الجسيمات الأولية لأسود الكربون المنتج تجاريًّا من 10 إلى 400 نانومتر، ويتميَّز بوزنه الخفيف واستقراره الكيميائي والحراري العالي وتكلفته المنخفضة وناقليَّته الدائمة للكهرباء (3).

3- الركام الفولاذي (Steel slag): منتجٌ ثانويٌّ صناعي يمكن الحصول عليه من عملية تصنيع الفولاذ، وينتج بكميات كبيرة في أثناء عملية تصنيع الفولاذ التي تستخدم أفران القوس الكهربائي (Electric arc furnaces)، ويمكن إنتاجه أيضًا عن طريق صهر الفولاذ الخام في فرن الأوكسجين القاعدي (Basic oxygen furnace)، ويتميَّز بناقليته الجيدة للكهرباء، إضافةً إلى إمكانية استخدامه عوضًا عن الركام الطبيعي في الخلطة الخرسانية بسبب خصائصه الميكانيكية المناسبة كقوة التحمُّل ومقاومته العالية للتآكل والصدمات (4).

الشكل (1) - بنية الخرسانة ذاتية الاستشعار

تتَّسم آلية التوصيل الكهربائي للخرسانة ذاتية الاستشعار بالتعقيد، وتنتج خاصية الاستشعار في هذه المادة عن حدوث تغير في الشبكة الناقلة داخل المادة بتأثير القوى الخارجية، ويؤثِّر تركيز الحشوات الوظيفية في ناقلية الخرسانة؛ ويمكن تفسير هذا التأثير عن طريق المنحني الآتي الذي يقسم إلى 3 أقسام تبعًا لتركيز الحشوات (4).

الشكل (2) - تغير الناقلية الكهربائية تبعًا لتركيز الحشوات

المنطقة A (منطقة العزل): عندما يكون تركيز الحشوات أقل بكثير من عتبة النفاذ (percolation threshold)، يصبح التباعد بين الحشوات الوظيفية كبيرًا، ممَّا يؤدي إلى صعوبة تكوين المسار الناقل، وتواجه الإلكترونات صعوبةً في الحركة بين الحشوات (4).

المنطقة B (منطقة النفاذ): ينخفض التباعد بين الحشوات مع زيادة تركيزها، وتبدأ بتشكيل مسارٍ ناقل، ويرتفع احتمال الانتقال الإلكتروني جدًّا، ممَّا يؤدِّي إلى زيادةٍ حادةٍ في الناقلية (4).

المنطقة C (المنطقة الناقلة): عندما يكون تركيز الحشوات أكبر من عتبة النفاذ (percolation threshold) تصبح كأنها متصلة ببعضها تقريبًا (4).

تتغيَّر المقاومة الكهربائية للخرسانة ذاتية الاستشعار عندما تتشوَّه بتأثير الأحمال الخارجية، وقد تساهم عدة عوامل في تغيُّر المقاومة الكهربائية؛ منها تغيُّر المقاومة الذاتية للحشوات الوظيفية، والتغيُّر في التماسك بين الخرسانة والحشوات الوظيفية، والتغيُّر في الاتصال بين الحشوات الوظيفية نفسها (4).

ومن أهم التطبيقات التي تستخدم الخرسانة ذاتية الاستشعار:

1- مراقبة الصحة الإنشائية (Structural Health Monitoring): تمثِّل مستشعرات الخرسانة ذاتية الاستشعار حلًّا ذكيًّا في المنشآت الخرسانية، ممَّا يوفِّر مراقبةً فعَّالةً للإجهاد الداخلي في المادة. ويعود ذلك إلى ارتباطها بالهيكل المرصود كونهما مصنوعين من المادة نفسها أو مادةٍ مشابهةٍ جدًّا. ويتطلَّب الكشف عن الأضرار ومراقبة الصحة الإنشائية بعض الخوارزميات لربط قياس قوى الضغط في أماكن محدَّدة من الهيكل بالحالة الهيكلية الشاملة. ومن الأبحاث والتجارب المهمَّة في هذا المجال ما أثبت قدرة الخرسانة ذاتية الاستشعار على العمل لمراقبة الاهتزازات في المنشأة (1).

الشكل (3) - مستشعرات الخرسانة ذاتية الاستشعار

2- رصد حركة المركبات (Vehicle Traffic detection): تُعَدُّ مراقبة حركة المرور عنصرًا أساسيًّا في إدارة عمليات المرور. وتُستَخدم أنظمةٌ مختلفةٌ لجمع ومعالجة بيانات حركة المرور كأجهزة الاستشعار المركَّبة تحت الرصيف أو المثبَّتة على طول الطريق، ولكنَّ دفن هذه المستشعرات التقليدية تحت الطريق يعرِّضه لانخفاض العمر التشغيلي ويقلِّل المتانة، بعكس الخرسانة ذاتية الاستشعار التي تتميَّز بسهولة التركيب والصيانة والتكاليف الأقل والعمر الافتراضي الأطول مقارنةً مع أجهزة الاستشعار التقليدية، ويمكنها توفير معلوماتٍ قيمةٍ كمعدَّلات التدفُّق المروري وسرعة سير المركبات، إضافةً إلى التقييم الإنشائي للجسور المعرَّضة للأحمال المتكررة (1).

سيتيح تطوير تقنية الخرسانة ذاتية الاستشعار على نحوٍ صحيح تحسيناتٍ كبيرةً في فعالية حلول مراقبة الصحة الإنشائية، ممَّا قد يتغلَّب على محدودية حلول الاستشعار الحالية، وعلى الرُّغم من ذلك فإنَّها ليست قابلةً للتطبيق بالكامل وتواجه حاليًّا عددًا من التحديات أهمها:

1- نقص المعرفة بالسلوك الكهروميكانيكي للمركَّبات المستخدمة في الخلطة الإسمنية وهو جانب رئيسي في استخدامها في تطبيقات مراقبة الصحة الإنشائية.

2- نقص في الخوارزميات الخاصة بمعالجة الإشارة الناتجة عن هذه المركَّبات وخصوصًا في ظروف التحميل المختلفة.

3- خصائص ميكانيكية غير مناسبة تجعل المركَّبات غير مناسبة بعد للاستخدام بوظيفة مواد إنشائية.

وسيكون هناك حاجة لمزيد من الأبحاث المستقبلية المتعلِّقة بهذه المادة ليصبح الهيكل مراقبًا ذاتيًّا بالكامل (1).

من وجهة نظرك، ما هي الآفاق المستقبلية لهذه المادة؟ وهل سيصبح الاعتماد الكلي على الخرسانة ذاتية الاستشعار ممكنًا؟

المصادر:

1.Ubertini F, D’Alessandro A. Concrete with self-sensing properties. In: Torgal F, Melchers R, Shi X, De Belie N, Van Tittelboom K, Sáez A, ed. by. Eco-Efficient Repair and Rehabilitation of Concrete Infrastructures [Internet]. Oxford: Elsevier Ltd; 2018 [cited 15 July 2020]. p. 501-530. Available from: هنا

2.Han B, Zhang L, Ou J. Smart and Multifunctional Concrete Toward Sustainable Infrastructures [Internet]. Singapore: Springer; 2017 [cited 15 July 2020]. Available from: هنا

3.Abdullah W, Mohammed A, Abdullah A. SELF SENSING CONCRETE: A BRIEF REVIEW. Conference: International Conference on Nanoscience, Nanotechnology & Advanced Materials (IC2NAM-2019) [Internet]. 2019 [cited 23 April 2020]. Available from: هنا

4.Han B, Yu X, Ou J. Self-Sensing Concrete in Smart Structures [Internet]. Oxford: Butterworth-Heinemann; 2014 [cited 15 July 2020]. Available from: هنا