كتاب > روايات ومقالات

مراجعة كتاب (رائحة القرفة): عندما تثير الروائح ذكريات الماضي

لا يُعاب المرء على الفقر الذي يعيشه، ولا قُبْح شكله، فليس له في ذلك حولٌ ولا قوة، وإنَّما يُعاب على قبح لسانه ودناءة أخلاقه، وهاتان النقيصتان جمعهما (أبو عليا) بجدارةٍ نادرة، فهو يجلد -بيديه وبسلاطة لسانه- أولاده المقصِّرين في جلب غلال التسوُّل ونبش القمامة، ثمَّ ينهال على زوجته بصنوف من العذاب والتنكيل ليس آخرها سلوكه الجنسي العدواني تجاهها، والذي تجده المسكينة قدرًا بائسًا لا مفرَّ منه.

"كانت عليا تجهل جنون الأب ذاك. وما يدفعه لمحاولة قتل أطفاله، عند أول ثورة غضبٍ منه، تشعر بالرعب عند أول لكمة، أو عند أول ارتطامٍ لجسدها بقدم الأب الضخمة، لكنّها بعد ذلك تفقد الوعي، ولا تصحو إلا بعد ساعات، وآلامٌ شديدة تغطّي جسدها".

إذن، هكذا هبطت الطفلة (عليا) من فضاء أحلامها الوردي إلى واقعٍ أليم، لتجد نفسها سليلة أسرةٍ لم يكن الفقر المادي مشكلتها الوحيدة،  وإنَّما فقر العواطف والمشاعر الدافئة التي حطمها أبٌ وصل جحوده لأسرته أن باع ابنته (عليا) لتعمل خادمةً مقيمةً عند عائلةٍ دمشقية، ثمَّ زهد في زيارتها وتقصِّي خبرها حتى شبت وهي تجهل حال أسرتها؛ فلا تعرف عنهم شيئًا سوى أنَّهم يقطنون حيَّ الرمل البعيد.

"أنهى الأب عدّ نقوده، وصافح السيّدة باحترامٍ وانحناء، وانحنى أكثر ليقبّل ابنته التي انتفضت وابتعدت هاربةً منه، إنّه يقبّلها للمرة الأولى منذ ولادتها. المرة الأولى والأخيرة، لأنّ السيّدة التي سمحت للرجل بزيارة ابنته كلّ فترة، لم تعرف أنّه لن يعود إلى بيت العائلة، وأنّه سيختفي عن الأنظار، وأنّ أمّها تجهل أين تسكن ابنتها، وأين ذهب بها الأب، ولن تفهم لماذا اختفى فجأة".

نظرت (حنان الهاشمي) إلى (عليا) بعين الرحمة والشفقة، فعاملتها معاملةً رقيقة وحبتها مزيجًا طيبًا من الحب والرعاية، ولكنَّ(حنان) ضَعُفت أمام تفتح براعم الأنوثة عند (عليا) فراودتها عن نفسها فرضخت، ودعتها إلى مغطس الحمَّام فاستجابت، فساحقتها على ضوء الشموع مرةً، ومع بخار الماء الدافئ مرةً أخرى، وفي كلِّ مرة كان عبق القرفة يفوح في الأرجاء..

"كانت تفرك جسدها بأنواع غريبة من الزيوت، وتعصر جلدها المرتجف بأصابعها. تتحرّك كعجينة، وتترك للسيّدة أن تفعل بها ما يحلو لها. عرفت أنّها تخبّئ في جسدها كنزاً تمنحه لسيّدتها ساعة تشاء".

لا تمرُّ فترة طويلة حتى تدرك (حنان) أنَّ الصبية اليانعة (عليا) تشاطرها زوجها أيضًا، وأنَّه كان يعاملها معاملة الخليلة لا الخادمة، فتفجَّر ليلها الحزين عن صبحٍ أسود وطردت (عليا) من بيتها وهي تعلم بأنَّ الفتاة ليس لها بيتٌ يؤويها أو أسرة ترأف بحالها.

وفي هذه الأثناء تتعرَّف (حنان الهاشمي) إلى السيدة (نازك) التي تجتذب إلى دائرتها الفارهة سيدات المجتمع المخملي اللواتي يتلذَّذن بسهراتهنَّ الطويلة بأشياء أخرى غير القهوة والنميمة. 

وبيديها الخبيرتين بمكامن المتعة ومواطن اللذة استمالت نازك حنان إلى أحضانها، وأذاقتها صنوفًا غريبةً من جنون الحب والمتعة.

"اقتربت منها، وهي تمرّر أصابعها الساخنة على جبينها. أزاحت حنان رأسها، فابتعدت أصابع نازك وتابعت حديثها، وهي تنحني على وجه حنان: أنت أرق مما يجب يا حمامتي.

أخذت تسترجع في ذاكرتها، لحظات استسلامها لنازك، سعيدةً باكتشافها بديل الخادمة التي طردتها".

في هذه الرواية تفتح الكاتبة السورية (سمر يزبك) عوالم مغلقة وممنوعة الإشهار حول مخفيات المجتمع الأنثوي في البيئة العربية المحافظة، وتسلط الضوء على الحب المسكوت عنه في هذا المجتمع؛ ذلك الحب الغامض الذي يدور في أفلاك القلوب.

معلومات الكتاب:

العنوان: رائحة القرفة

المؤلّف: سمر يزبك

الناشر: لبنان- بيروت، دار الآداب (2008)