الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع

الموجات النسوية الثلاث، ورابعة عصرنا; ماذا تغير؟

مفهوم النسوية (Feminism): يُشير هذا المصطلح إلى الاعتقاد بالمساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الجنسين، وعلى الرغم من أن نشأة الحركة النسوية إلى حد كبير كانت في الغرب؛ فإن وجودها مُتجسد في جميع أنحاء العالم؛ مُمَثلةً بمؤسسات مختلفة ملتزمة بالدفاع عن حقوق المرأة ومصالحها.

وعادةً ما تُقسَّم الحركة النسوية في تطورها إلى أربع موجات:

1- الموجة النسوية الأولى؛ التي رفعت شعار حقوق الملكية وحق المرأة في التصويت.

2- الموجة النسوية الثانية؛ التي ركزت على المساواة ومناهضة التمييز.

3- الموجة النسوية الثالثة؛ التي بدأت في التسعينات ردَّ فعل عكسي على الامتياز المُتَصَور الذي منحته الموجة الثانية عن النساء البيض مُغايرات الميول الجنسية.

4- الموجة الرابعة؛ التي تُعدُّ حصيلة عملية لكل ما سبقها، وكان استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أحد العناصر الرئيسية المُميزة لهذه الموجة، وذلك لتسليط الضوء على المخاوف الاجتماعية وأهمها حوادث التحرش في بيئة العمل وفجوة الرواتب بين الجنسين وقدمت اقتراحات لإمكانية معالجتها. 

نشأت الموجة الجديدة وسط عدد من الحوادث البارزة؛ كحركة (مسيرات النساء) (Women's March) في الولايات المتحدة.

● تاريخ النسوية

البداية كانت في اليونان مع الفيلسوف اليوناني أفلاطون (429-Plato 347) الذي دافع في كتابه الشهير؛ الجمهورية (The Republic) عن حقوق المرأة مؤكِّدًا أنها تمتلك "قدراتٍ طبيعيةً" مساويةً للرجل وهي قادرةٌ على الحكم والدفاع عن اليونان القديمة. 

لم يتفق الجميع مع أفلاطون، وجديرٌ بالذكر أن تلميذه أرسطو كانت له رؤيةٌ مختلفةٌ إلى النساء؛ إذ كان الرجال في رأيهِ متفوقين طبيعيًّا على النساء، وبعد جيل واحد فقط أعاد أرسطو -في السياسة- النساء إلى أدوارهن التقليدية خاضعين للرجال في المنزل مُعلِنًا صراحةً: "بالنظر إلى الجنسين؛ الذكر بطبيعته رئيس والأنثى مرؤوسة، الذكر حاكمًا والأنثى محكومة''، هكذا ردَّ أرسطو على مطالبات أفلاطون التي أقرّت بمساواتهن (6). وغير بعيدٍ عن اليونان؛ نظمت نساء روما القديمة احتجاجًا كبيرًا على قانون الأفيون الذي قيد قدرة المرأة على ملكية الذهب وغيرها من السلع، وجادل القنصل الروماني ماركوس بورسيوس كاتو قائلًا:  "بمجرد أن يتساوين معك، سيصبحن رؤساءك!" (3,6).

في القرن الخامس عشر -وفي كتاب مدينة السيدات (The Book of the City of Ladies)- احتجَّت كريستين دي بيزان (Christine de Pizan 1364-1430) على الكُره الموجَّه ضد النساء وعلى دورهن المهمش خلال العصور الوسطى (1)؛ أما خلال عصر التنوير؛ فقد قلل الفلاسفة من شأن المرأة؛ فصوّر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau 1712-1778) النساء على أنهن مُسخرات ليكُنَّ تابعات للرجال، وقد أظهر إعلان حقوق الإنسان والمواطن بعد ثورة 1789 في فرنسا فشلًا واضحًا في معالجة الوضع القانوني للمرأة (3)، ولكن إبان عصر التنوير تحركت الفيلسوفات وناضلنَ بقوةٍ سعيًا لتحقيق مزيد من المساواة للمرأة، وقد ألَّفت الفيلسوفة ماري وول ستونكرافت (Mary Wollstonecraft 1759-1797) كتاب (إثبات حقوق المرأة) للتأكيد على هذا النضال (1).

● الموجة الأولى للنسوية: حق المرأة في التصويت ومؤتمر سينيكا فولز (The Seneca Falls Convention) الخاص بحقوق المرأة:

انعقد أول مؤتمر لحقوق المرأة عام 1848، وألقت إليزابيث كادي ستانتون (Elizabeth Cady Stanton) ولوكريشيا موت (Lucretia Mott) بجرأةٍ خطابهنَّ الشهير الذي أثار جدلًا حينها حين أصروا على أن الرجال والنساء خُلقوا متساويين وأن مثل هذه الحقائق يجب أن  تُعدّ من البديهيات؛ وطالبوا بحق المرأة في الانتخاب والتصويت (1).

تأثرت الحركة النسوية بشدة في ذلك الوقت بفريدريك دوغلاس (Frederick Douglass 1818-1895)، وهو أحد أهم زعماء الحركة المُناهضة للعبودية وناشطٌ في مجال حقوق المرأة، وذلك لرفضه حقه بالتصويت لكونه رجلًا أسود في حال لم تتمكن المرأة من الحصول على هذا الحق أيضًا، وعندما صدر القرار؛ بدأ هذا المطلب ينتشر بجدية مُسيطرًا على معظم نداءات ونشاطات الحركة النسائية عدة عقود (1,4). أدت المناقشات في حق المرأة عن التصويت والمشاركة في السياسة إلى دراسة الفروق بين الجنسين، وصرّح بعضهم أن النساء متفوقات أخلاقيًّا على الرجال، وبأن وجودهن في المجال المدني من شأنه أن يحسن السلوك العام والعملية السياسية، ولكن جديرٌ بالذكر أنه على الرغم من أن الرجال والنساء يختلفون بوضوحٍ في أحكامهم الأخلاقية؛ فإن التفوق الأخلاقي لأحد الجنسين يُعدُّ فرضيةً نسبيةً لم تُثبت علميًّا حتى اليوم (2)، وقد أُجريت عدة تجارب لتأكيد فرضيات مختلفة بهذا الخصوص أو نفيها، وإحدى هذه جرت على مديرين رجال ونساء على السواء، وقد وُضِعوا في سيناريوهات مهمة أخلاقيًّا وعليه يجب على هؤلاء المديرين اتخاذ قرارات تنحصر بين الـ "نعم" والـ"لا"، والنتيجة كانت بأن أربعة من بين ستة سيناريوهات أظهرت اختلافات جوهرية تُميز الجنسين في تعاملهم مع هذه الحالات، وهنا يظهر أثر نظرية الجندرة الاجتماعية بالمعايير والقيم الأخلاقية المختلفة التي يُطبقها كل من الرجال والنساء في محيط عمله. 

ومن خلال هذه الدراسة كانت أولويات المرأة هي تحسين المناخ الأخلاقي العام للشركة ورعاية العملاء والمقاربات الأكثر إبداعًا لحل المشكلات وبناء علاقات أكثر فعالية وخلق ثقة أكبر في الشؤون الشخصية وأنماط إشراف أكثر دعمًا وتفهمًا.  

في الوقت نفسه؛ تبدو المرأة أقل حسمًا أو أبطأ في اتخاذ القرارات؛ لذلك فمن المحتمل جدًّا أن تكون النتيجة الأكثر إرضاء للشركات هي مزيج من أفضل الميزات لكل جنس؛ فأصوات النساء يجب أن يُحتفى بها بوصفها منتجًا إيجابيًّا آخر لإثراء التنوع في المنظمات (7).

ببطءٍ ولكن بثبات؛ بدأت حقوق المرأة في تحقيق بعض النجاحات؛ فكان التعديل التاسع عشر الذي أبصر النور أول مرة عام 1893؛ حين أصبحت نيوزيلندا أول دولة ذات سيادة تمنح النساء الحق في التصويت، تلتها أستراليا عام 1902 وفنلندا عام 1906. 

وفي انتصار عُدَّ محدودًا؛ منحت المملكة المتحدة عام 1918 حق التصويت للنساء فوق سن الثلاثين (1)، وأثبتت مشاركة النساء في الحرب العالمية الأولى لكثيرٍ من الناس في الولايات المتحدة الأمريكية أن المرأة تستحق التمثيل المتساوي، وبناءً عليه أُقرَّ التعديل التاسع عشر الذي يمنح النساء الأمريكيات حق التصويت  في عام 1920، وذلك بفضل العمل الذي حققه ناخبون أمثال سوزان ب. أنتوني (Susan B. Anthony) وكاري شابمان كات (Carrie Chapman Catt).

 في أعقاب الكساد العالمي العظيم عام 1929؛ فقد عديدٌ من المُعيلين من الذكور وظائفهم؛ مما أجبر النساء على الدخول إلى سوق العمل بأعدادٍ أكبر، وبدأت النساء في العثور على أعمال "مُلائمة للمرأة" برواتب منخفضة ولكنّها تميّزت بالاستقرار والثبات؛ كالأعمال المنزلية والتدريس والسكرتارية (1). 

ومع قدوم الحرب العالمية الثانية؛ انخرطت أعداد كبيرة من النساء في الميدان العسكري وخصوصًا في الأعمال الصناعية التي كانت مخصصةً للرجال سابقًا؛ ممّا ساهم بالترويج لروزي ريفتر (Rosie the Riveter) التي رمزت آنذاك للمرأة العاملة بوصفها أيقونة نسوية، وفي أعقاب حركة الحقوق المدنية؛ سعت النساء إلى مزيد من المشاركة في سوق العمل واضعين تحصيل أجرٍ متساوٍ في طليعة جهودهن، وكان صدور قانون المساواة في الأجور لعام 1963 من بين الجهود الأولى المبذولة لمواجهة هذه الإشكالية التي لا تزال شائعة حتى يومنا هذا (1).

● الموجة النسوية الثانية ( 1990-1960):

ارتكزت الموجة الثانية إلى نظريات الماركسية الجديدة مُدمجةً بنظرية التحليل النفسي، وبدأت في ربط إذعان النساء بالسلطة الأبوية والرأسمالية، وحصر دور المرأة بالزوجة والأم، ويُعدُّ حرص الحركة على خلق فضاءات نسوية فقط  من أهمّ مميزات هذه الموجة المعقدة والمتنوعة فساد الاعتقاد بأن الديناميكية الموجودة في العمل النسوي الخالص لا يمكن إيجادها في المجموعات المختلطة (2).

مع كل ما تحقق في السنوات الأولى لظهور الحركة النسوية؛ فإن العقبات الثقافية لم تختفي، ومع نشر (السحر الأُنثوي) (The Feminine Mystique) عام 1963، صرّحت بيتي فريدان (Betty Friedan 1921-2006) -وهي مؤسسة المنظمة الوطنية للمرأة- أنّ النساء لا يزلن مُحَجَّمات في الأدوار غير المقنعة التي يشغلنها في مجال التدبير المنزلي ورعاية الأطفال، وبحلول هذا الوقت كان كثير من الناس قد أشاروا إلى الحركة النسائية على أنها حركة هادفة إلى "تحرير المرأة". 

وفي عام 1971، انضمت النسوية غلوريا ستاينم (Gloria Steinem) إلى فريدان وبيلا أبزوغ في تأسيس المؤتمر السياسي الوطني للمرأة، وأصبحت مجلة (Ms. Magazine) التي أسستها ستاينم أول مجلة تختار النسوية موضوعًا تعرضه على غلافها عام 1976، وصادق الكونغرس عام 1972 على التعديل الخاص بالمساواة في الحقوق في سعيٍ إلى تحقيق المساواة القانونية للمرأة ومنع التمييز على أساس الجنس، ولكن لم تجرِ المصادقة عليه من قِبل ولاياتٍ كافيةٍ ليصبح قانونًا، وبعد مرور عامٍ واحد؛ احتفلت النسويات بقرار المحكمة العليا في قضية روي ويد ( Roe v. Wade)، وهو الحكم التاريخي الذي ضَمِنَ حق المرأة في اختيار الإجهاض الذي عُدَّ انتصارًا للحركة النسوية آنذاك (1).

● الموجة النسوية الثالثة: من المستفيد من الحركة النسوية؟

جادل النقاد بأن فوائد الحركة النسوية منذ القرن التاسع عشر -وخصوصًا في الموجة الثانية- تقتصر إلى حد كبير على النساء البيض المتعلمات والجامعيات، وأن الحركة النسائية قد فشلت في معالجة مخاوف النساء من غير البيض والمثليات والمهاجرات والأقليات الدينية(1)؛ فمثلًا أعربت سوجورنر تروث (Sojourner Truth 1797–1883) -وهي مناضلة أفريقية أمريكية ضد العبودية وناشطة في مجال حقوق المرأة (5)- عن أسفها للتمييز العنصري الموجه ضد المرأة بخطابها  الشهير: "ألستُ أنا امرأة؟" قبل اتفاقية حقوق المرأة في أوهايو لعام 1851، وهذا بعضٌ مما جاء فيه:

"باستطاعتي العمل كالرجل ويمكنني تحمّل المتاعب أيضًا؛ إذن؛ ألست أنا امرأة! لقد أنجبت ثلاثة عشر طفلًا، وشهدت بيع معظمهم عبيدًا، وعندما بكيت بحرقة أُم لم يسمعني أحد سوى الله؛ أولستُ أنا امرأةً!" (1).

من الصعب التحدث عن أهداف الموجة الثالثة لأن إحدى خصائص تلك الموجة هي رفض الأهداف المجتمعية الموحدة؛ فهي لا تعرّف نفسها على أنها مجموعة ذات مظالم مشتركة، وعلى الرغم من دعم الموجة الثالثة للحقوق المتساوية؛ فقد رفض روادها تحديد حركتهم بمصطلح (النسوية)؛ مما يُرسخ فردية المناضلات في هذه الموجة (2).

● الموجة الرابعة: هل تغيرت الشعارات، أم تغيرت الأساليب؟

على الرغم من الجدل حول التاريخ الدقيق للانطلاقة الحقيقية لهذه الموجة؛ فإن كثيراً من الناشطين يعتقدون بأنها بدأت عام 2012 مولية تركيزًا كبيرًا للإساءة الجنسية والتنمر الجسدي والاغتصاب من بين قضايا أخرى (3). 

بدأت هذه الموجة في الظهور لاعتقاد شباب هذا العصر إما بإفراط الموجة الثالثة في تفاؤلها وإما باكتنافها الغموض، وتنتقل الحركة النسوية الآن من الخطاب الأكاديمي وتعود إلى الفضاء العام؛ فأصبحت القضايا المحورية في المراحل المبكرة للحركة النسوية تحظى باهتمام دولي على الصعيد الصحفي والسياسي، وخصوصًا مع استعمال وسائل التواصل الاجتماعي لإلقاء الضوء عليها؛ فلم يعد التحدث بقضايا كهذه فعلًا مبالغًا به أو يُعدُّ حكرًا على المُثقفين (2).

 يواجه بعض الراغبين بالانخراط في الموجة الرابعة مشكلة مع كلمة "النسوية" ظنًّا منهم بأنها متطرفة، ولكونها تدعم بنصها استبعادًا للجنس الآخر عبر استخدام مصطلح "للسيدات فقط"؛ بمعنى أنها تمنعهم من الوصول لجمهور أوسع؛ لكن ومع ذلك فمصطلح "النسوية" يلقى صدًى واسعًا وذلك لاعتقاد الجيل الجديد بأن سعيهم للمساواة بين الجنسين يحتاج إلى كلمة قوية ومُعبرة لتحقيقها (2).

يمكن القول أن حركة Me Too هي من أكبر نجاحات هذه الموجة، وقد أُطلقت عام 2006 في الولايات المتحدة لمساعدة الناجين من العنف الجنسي، وخاصة الإناث من أعراق غير بيضاء؛ لكنّها اكتسبت اهتمامًا واسع النطاق بدءًا من عام 2017، بعد أن كُشِفَ عن أن صانع الأفلام هارفي وينشتاين (Harvey Weinstein) قد تسبب بمضايقات واعتداءات جنسية لعدة نساء، وهنا تحديدًا بدأ ضحايا التحرش الجنسي في جميع أنحاء العالم ومن جميع الأعراق بتبادل تجاربهم على وسائل التواصل الاجتماعي باستخدام الهاشتاج #MeToo للتعبير عن أن زمن السكوت عن التجاوزات بحقهم قد ولّى (3).

المصادر:

1- Feminism [Internet]. History.com. A&E Television Networks; 2019. هنا

2- Rampton M. Four Waves of Feminism. [Internet] Pacific University. 2019. هنا

3- Burkett E, Brunell L. Feminism. Encyclopædia Britannica.[Internet] 2020. هنا

4- Frederick Douglass [Internet]. Biography.com. A&E Networks Television;2014. هنا

5- Sojourner Truth Biography [Internet]. Biography.com. A&E Networks Television;2014. هنا

6- Smith ND. Plato and Aristotle on the Nature of Women [Internet]. 1983. هنا

7- Dawson LM. Women and men, morality and ethics [Internet]. Business Horizons. Elsevier; 2002. هنا