الفيزياء والفلك > فيزياء

هل أخطأ هايزنبرغ في مبدأ الشك؟

تُستخدم كلمة الشك أو الريبة أو عدم التعيين (uncertainty) بكثرة في عالم ميكانيكا الكم (quantum mechanics)؛ وهي واحدة من المدارس الفكرية التي تعتقد أن ثمة شيء يحدث في ذلك العالم لسنا متأكدين بشأنه، لكن معظم علماء الفيزياء يعتقدون أن الطبيعة نفسها ليست مؤكدة.

احتلت فلسفة الشك قلب النظرية التي قدمها عالم الفيزياء الألماني الأشهر فيرنير هايزنبرغ  Werner Heisenberg أحد مؤسسي علم ميكانيكا الكم الحديث. وفقًا لهذا المبدأ فإنه لا يمكن معرفة كل خصائص جسيم كمومي في الوقت نفسه؛ على سبيل المثال قياس التموضع (position) لجسيم ما سيسمح بمعرفة مكانه لكن هذا القياس سيؤدي بالضرورة إلى تغيير سرعته بمقدار يتناسب عكسًا مع دقة عملية القياس التي استخدمت لتحديد التموضع (1)(2).

هل يوجد خطأ؟

استخدم هايزنبرغ مبدأ الشك ليوضح كيف يمكن لعملية القياس أن تؤثر في الخصائص التقليدية لميكانيكا الكم؛ على سبيل المثال أسلوب تجربة الشق المزدوج سنتحدث عنها لاحقًا.

مع بزوغ حقبة التسعينات من القرن العشرين ادعى بعض العلماء البارزين في مجال فيزياء الكم أنهم أثبتوا مقدرتهم على تحديد أي من الشقين سلكها الجسيم في تجربة الشق المزدوج دون التأثير في سرعته كثيرًا، إلا أن بحثًا نُشر في دورية Science Advances  أظهر أن القفز إلى هذا الاستنتاج لن يكون حكيمًا؛ لأن ظهور اضطرابٍ في سرعة الجسيم بدرجة توقعها مبدأ عدم التأكد ما زال موجودًا وجودًا ما (2).

تجربة الشق المزدوج

يُستخدم في هذه التجربة حاجز ذو فتحتين أو شقين وجسيم كمومي بدرجة كبيرة من التموضع غير المؤكد (غير معلوم مكانه بدرجة كبيرة)، إذ يمكنه المرور من أيٍّ من الشقين إذا أُطلق تجاه الحاجز؛ سيبدو أنه عبر من خلال الشقين معًا في الوقت ذاته؛ لأنه  غير ممكن معرفة أي من الشقين سيعبر منه الجسيم. 

تُعرف هذه الظاهرة بـنمط التداخل (interference pattern) وهي تموجات موزعة في المجال الذي يفترض استقبال هذا الجسيم فيه وعادةً تكون شاشة خلف الحاجز بعيدة عن الشقوق بمسافة كافية وغالبًا تكون عدة أمتار. 

صورة توضّح الجسيمات التي تمر بشقين في وقت واحد تشكل نمط التداخل على شاشة في المجال البعيد، هناك نطاقات مظلمة يفصل بينها نطاقات مضيئة:

ولكن ماذا لو وضع جهاز قياس بالقرب من الحاجز لرصد الشق الذي عبر منه الجسيم؟ هل سيكون بإمكاننا رصد ظاهرة نمط التداخل؟

الإجابة هي لا؛ وتفسير هايزنبرغ كالآتي: لو كان بإمكاننا قياس التموضع بدقة كافية لندرك في أي من الشقين عبر الجسيم، سنُحدث اضطرابًا عشوائيًّا كبيرًا في سرعته لدرجة ستؤثر في الطريقة التي سينتهي بها في المجال البعيد، ومن ثم سيمحو تموجات التداخل (2).

ما أدركه علماء فيزياء الكم البارزون آنذاك هو أن اكتشاف أي من الشقين مرَّ عبرهُ الجسيم لا يتطلب قياس التموضع على هذا النحو. أي قياس سيجعلنا نحصل على نتائج مختلفة اعتمادًا على الشق الذي مر من خلاله الجسيم، توصلوا أيضًا إلى جهاز لا يؤثر في سرعة الجسيم عشوائيًا في أثناء مروره، ثم ادعوا أن مبدأ الشك لهايزنبرغ لا يفسر فقدان التداخل، وإنما ثمة آلية أخرى (2).

كما تنبأ هايزنبرغ

بصرف النظر عن سبب فقدان التداخل، وذلك لأن التجربة التي أُجريت لاحقًا أظهرت أنه ثمة تأثيرٌ في سرعة الجسيم تقريبًا وفق ما تنبأ به هايزنبرغ، ولكن الجزء المهم في التجربة هو أن هذا الاضطراب في السرعة لا يحدث نتيجة مرور الجسيم عبر جهاز القياس، بل يتأخر حتى يمر تمامًا من الشقين في طريقه نحو حقل الاستقبال البعيد؛ لأن الجسيمات الكمومية ليست في الحقيقة مجرد جسيمات لكنها أيضًا موجات. في الحقيقة إن النظرية خلف التجربة الجديدة قد ظهرت فيها كلٌّ من الموجة وطبيعة الجسيم معًا -الموجة توجه حركة الجسيم- طبقًا للتفسير الذي قدمه عالم الفيزياء دافيد بوم David Bohm الذي يعد من علماء الجيل التالي لهايزنبرغ (2).

التجربة

اتبع علماء من الصين في التجربة الأخيرة تقنية اقترحها الفيزيائي الأسترالي هوارد وايزمان Howard Wiseman في عام 2007 لإعادة بناء الحركة الافتراضية للجسيمات الكمومية، من عديد من نقاط البداية الممكنة المختلفة عبر الشقين، قدّم وايزمان هذه التقنية لكل من نتائج القياس في ورقة بحثية نشرت في دورية New Journal of Physics  بعنوان: "أسس الميكانيكا البومية* في القيم الضعيفة وأرجحية النظرية الافتراضية" (4). أما التجربة التي أداها العلماء الصينيون فنشرت في ورقة بعنوان "التوجيه التجريبي غير المحلي للمسارات التي تخضع للميكانيكا البومية" (5).

قارن العلماء في التجربة الأخيرة السرعة والزمن في حالة عدم وجود أجهزة قياس مع حالة وجود أجهزة القياس، أظهرت النتائج أن تأثير القياس في سرعة الجسيمات استمر لوقت أطول بعد أن أُزيل جهاز القياس نفسه لمسافة خمسة أمتار؛ عند هذه النقطة وفي المجال البعيد كان التغيير التراكمي للسرعة أكبر كفايةً في المتوسط  ليزيل نمط تداخل التموجات. في النهاية يبدو أن مبدأ عدم التأكد لهايزنبرغ انتصر من جديد(2).

ختامًا لا تفكر في ادعاءات بعيدة عن المبدأ الذي لا يمكنه أو يمكنه شرح ظاهرة حتى تأخذ في حسبانك كل صيغ هذا المبدأ، هذه النصيحة صالحة للتطبيق في كل مجالات الفيزياء. 

 

* نسبة إلى العالم الفيزيائي دافيد بوم

 

روابط من مقالاتنا القديمة:

هنا

هنا

المصادر:

1- Werner Heisenberg GERMAN PHYSICIST AND PHILOSOPHER. [online] Available at: هنا [Accessed 22 June 2020].

2- Wiseman, H., 2020. Is Heisenberg’S Uncertainty Principle Wrong?. [online] هنا. Available at: هنا [Accessed 22 June 2020].

3- Observing momentum disturbance in double-slit “which-way” measurements. [online] Available at: هنا [Accessed 22 June 2020].

4- Wiseman, H., 2007. Grounding Bohmian mechanics in weak values and bayesianism. New Journal of Physics, 9(6), pp.165-165.

5-  Experimental nonlocal steering of Bohmian trajectories. [online] Available at: هنا [Accessed 22 June 2020].