الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة الغربية

العبثية (Absurdism)

يُفسَّر مصطلح العبث (The Absurd) لغويًّا بأنه كل فعل لا تترتب عليه فائدة أصلًا (1)؛ أي أن العبث هو كل فعل أو حدث لا جدوى منه، ولا ينطوي على فائدة مرجوة، وتشير مفهومات العبث والعبثية واللاجدوى إلى المعنى ذاته وهو "اللا معنى (Meaningless)" بذاته، ولم يعد مفهوم العبثية اليوم جزءًا من الأدب العالمي وفلسفة القرن العشرين فحسب؛ بل أصبح ضمن الثقافة الشعبية الحديثة أيضًا (2).

أما فلسفيًّا؛ فقد ارتبط مفهوم "العبثية" باسم "فيلسوف الثورة واللامعقول" ألبير كامو (1913-1960  Albert Camus) الذي نصر في كتابه "أسطورة سيزيف (The Myth of Sisyphus)" سيزيف وصخرته على أحكام الآلهة الغاضبة؛ فيقول: لقد ظنوا لسبب معقول أنه ليس هناك عقاب أبشع من العمل التافه الذي لا أمل فيه (1,3) واصفًا سيزيف بأنه "البطل اللامُجدي" الذي "يعلمنا الأمانة الأسمى التي تنفي الآلهة وترفع الصخور" (3).

فعلى عكس الرأي السائد في الثقافة الشعبية بأن مفهوم "العبث" يشير إلى التصورات الغامضة عن المفارقات والتناقضات والارتباك الفكري الحادث في ظل الحياة الحديثة -على الرغم من أن هذا التصور يتفق مع جوهر العبث- لكن كامو يذهب بمفهوم العبث والعبثية إلى ما هو أبعد من ذلك، ويتناول ثلاثية الوجود والإنسان والكون من منظوره العبثي؛ فيرى أن العبث يُعبِّر عن تنافر أساسي، وعدم توافق مأساوي في وجودنا، مجادلًا بأن العبث هو نتاج اصطدام أو مواجهة بين رغبتنا البشرية في الوصول إلى النظام والمعنى والهدف من الحياة، وبين "صمت الكون" الفارغ واللامبالي (2).

ولأن برأيه أن اللاجدوى لا تكمن في العناصر وإنما تولد في مواجهة هذه العناصر لبعضها؛ فهي ليست في الإنسان وليست في العالم وإنما في وجودهما معًا، وهي الرابطة الوحيدة التي تجمع بينهما الآن. 

وتنبثق اللاجدوى من المقارنة بين حقيقة مجردة وواقع معين؛ أي بين الفعل والعالم الذي يفوق طبيعة هذا الفعل؛ ومن ثمَّ فهي افتراق، ويوضح كامو الصراع الحادث بين السعي البشري للمعنى ولا اكتراثية الكون لهذا السعي فيقول: "هذا الذهن وهذا العالم يتواتران ضد أحدهما الآخر دون أن يكون في وسعهما أن يتقبل أحدهما الآخر" (3).

ويضيف جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre 1905-1980) تعقيبًا إلى العبثية ويقول: "من المؤكد أن العبثية لا تكمن في الإنسان ولا في العالم؛ إذا كنت تفكر في كل منهما على حدة، ولكن بما أن سمة الإنسان المهيمنة هي (الوجود في العالم)؛ فإن العبث هو في النهاية جزء لا يتجزأ من حالة الإنسان". 

إذًا يقدِّم العبث نفسه على شكل معارضة وجودية، وتنشأ من الطلب البشري للوضوح والتعالي من ناحية، والكون الذي لا يقدم شيئًا من هذا القبيل من ناحية أخرى، وهذا هو مصيرنا؛ نحن نعيش في عالم لا يبالي بمعاناتنا ويصمُّ عن احتجاجاتنا (2).

وبما أن فلسفة كامو تتلخَّص على نحو: عِش ثائرًا على الحياة، ومت ثائرًا على الموت (1)، فإنَّه يقترح ثلاثة حلول فلسفية بكونها محاولات إنسانية للتعامل مع هذا المأزق، واصفًا اثنين منها على أنها مراوغات، والرأى الثالث بأنه حلٌّ مناسب من وجهة نظره.

في الخيار الأول عالج كامو مسألة الانتحار الجسدي؛ إذا قررنا أن الحياة دون غرض أو معنى أساسي لا تستحق العيش، ويمكننا ببساطة أن نختار أن نقتل أنفسنا، رفض كامو هذا الاختيار وعدَّه جُبنًا؛ فالتنصل أو التخلي عن الحياة ليس ثورة حقيقية (2)، ولأن كامو هو الثائر المتمرد؛ فإنه لا يستسلم للانتحار؛ فالانتحار تسليم بأن الحياة بلا معنى، وأن الوجود لا معقول، والتمرد يسلِّم بذلك أيضًا، ولكن كامو يتمرد على العبث واللامعقول في الحياة والوجود، ويرفض المتمردُ الموتَ، وأما المستسلم فيعجّل بالموت، ويضفي التمرد على الحياة قيمة، وفلسفة كامو لذلك فلسفة تمرد على اللامعقول، وفلسفة تحدٍ للوجود وللعدم سواء بسواء (1)، لم يقف كامو عند تفسير العبث واللاجدوى التي تملأ هذا الكون بل رفض الاستسلام واختار المواجهة والتمرد.

الخيار الثاني هو الحل الديني ومحاولاته لفرض عالم متسامح من العزاء والمعنى وراء العبث، معتمدًا على الحلول الخارقة لمشكلة العبث، ويصف كامو الحل الديني بأنه (انتحار فلسفي) رافضًا إياه على أنه حل مراوغ ومحتال بشفافية؛ فتبني حل خارق لمشكلة العبث (مثلًا، من خلال نوع من التصوف أو قفزة الإيمان) هو إبادة العقل، وهو في رأي كامو قاتل ويدمر نفسه مثل الانتحار الجسدي؛ أي بدلًا من يخرج المؤمن الديني نفسه من المواجهة السخيفة للذات والعالم؛ فإنه ببساطة يزيل العالم السيئ ويستبدله بعالم أكثر توافقًا عن طريق نوع من المكياج الميتافيزيقي (2).

أما الخيار الثالث فيقدم فيه كامو حلًّا أصيلًا وبسيطًا لهذه المعضلة، ويتلخص في احتضان عبثية هذا الكون وتقبُّلها والتعايش معها كما فعل سيزيف عندما تقبل مصيره بكل شجاعة، بما أن العبث في رأي كامو هو سمة لا يمكن تجنبها، بل محددة بالفعل للحالة البشرية؛ فإن الاستجابة المناسبة الوحيدة لها هي القبول الكامل والشجاع، ويقول: "إن الحياة يمكن أن تعاش أفضل إذا لم يكن لها معنى" (2).

ما أراد كامو أن يقوله هو أنه من الشجاعة والبطولة النهوض كل يوم لخوض معركة تعلم أنك لا تستطيع الفوز بها، وفعل ذلك بكل ما تمتلكه من ذكاء ونعمة ورأفة بالآخرين حتى تصل إلى الخلاصة من كل هذا وهي مواجهة العبث بروح البطولة الحقيقية (2)، ونختم بقول كامو متحدثًا عن عظمة موقف سيزيف وعن السلام الذي ينبغي أن يختاره سيزيف الإنسان وسط عالمٍ من اللامعنى: "يكمن كل سرور سيزيف الصامت هنا، أن مصيره يخصه هو، وصخرته هي شيؤه هو، وكذلك فإن الإنسان اللامجدي، حين يتأمل في عذابه، يُصمِت كل الأصنام [...] وفي اللحظة الدقيقة التي ينظر فيها الإنسان إلى الخلف ليستعرض حياته، حين يعود سيزيف إلى الصخرة، في ذلك الدوران الضئيل يتأمل في تلك السلسلة من الفعاليات اللامرتبطة ببعضها، التي تصبح مصيره، الذي يخلقه هو، والذي يمتزج تحت عين ذاكرته، وسرعان ما يختم عليه موته. 

وهكذا فهو يستمر في سيره مقتنعًا بالأصل البشري تمامًا لكل ما هو بشري؛ كالأعمى المتلهف إلى الرؤية "الذي يعرف أن الليل لن ينتهي أبدًا، والصخرة ما تزال تتدحرج" (3).

المصادر:

1- الحنفي، عبد المنعم. (2000). المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة. مكتبة المدبولي. القاهرة. ص 520، 618. 619.

2- هنا

3- كامو، ألبير.(1983). أسطورة سيزيف. ترجمة حسن، أنيس زكي. منشورات دار مكتبة الحياة. لبنان. 138، 143، 39، 49، 142.