كتاب > اكتب تكن

قراءة في كتاب (حياة الكتابة): التعمُّق في عوالم الروائيين الجزء الثاني

الكاتب التشيلي روبرتو بولانيو (Roberto Bolano):

يؤكد بولانيو على أهمية المنفى في صقل شخصية الكاتب؛ إذ يقول: "يحمل الأدب عمومًا المنفى بداخله، سواء كان الكاتب قد جمع أغراضه ورحل في سن العشرين أو لم يغادر موطنه قط". 

ويعطي مثالًا عن ذلك (ألونسو دي أرثييا)؛ وهو شاعر وجندي إسباني كان قد كتب قصيدة ملحمية (لا أروكانا) في عصره، وذلك بعد أن تغرَّب وجال في بلاد عدة وشارك في المعارك التي خاضها الإسبان ضد الهنود الحمر في القارة الجديدة، ومن الواضح الأثر الجلي الذي تركته في نفسه، فخرج فيما بعد في قصيدته تلك. 

ومن جهة أخرى، يؤكد بولانيو أيضًا بأنَّ المنفى يُعدُّ مسألة أذواق، وقد يختلف توصيفها بين كاتب وآخر؛ كالكاتب الأمريكي هيرمان ميلفيل الذي لم يختبر برودة المنفى يومًا لكثرة ترحاله.

ويعتقد بولانيو بأنَّ قرار المنفى يكون طوعيًّا في معظم الحالات على حد تعبيره، ويشبِّه اختيار المنفى باختيار الكتابة.

ويقارن بولانيو بين الكاتب وبين مهن أخرى، فالسياسي والمحامي يعاني من التخبط خارج بلاده مثل السمكة خارج الماء على حد تعبيره.

"فبين (أن تكون) و(أن تعمل) ثمة اختلاف كبير، والكاتب يكون ويعمل في أي موقف، اما الشرطي فإنه يكون وحسب".

الكاتب البريطاني كازو إيشيغورو (Kazuo Ishiguro):

 يفتتح إيشيغورو مقالته بالتأكيد على أنَّ مهنة الكتابة لا تنطبق عليها معايير العمل ساعات مستمرة كبقية المهن؛ إذ تنخفض جودة الكتابة بعد انقضاء ساعات طويلة مستمرة.

ثم يطرح إيشيغورو تساؤلًا حول الوقت المناسب الذي يمتلك فيه المرء المعرفة الكافية ليدخل عالم الكتابة، ويقول في ذلك: "إن البدء في وقت مبكر للغاية قد يسبب الوقت نفسه من الضرر المتمخّض عن البدء متأخرا للغاية".

 ويبحث أيضًا في الأسباب التي ألهمته في أثناء فترة كتابته لرواية (بقايا يوم) ممَّا علق في ذاكرته في حياته، ويوضح عن طريقها تأثره بعدة تفاصيل من حياته اليومية التي اضطرته فيما بعد لإجراء بعض التعديلات على الشخصيات ومجريات بعض الأحداث. الكاتب اللاتيني ماريو باراغاس يوسا (Mario Vargas Liosa):

 يشرح يوسا في مقالته هذه عن مخاوفه من الطيران التي ظهرت فجأة، فهو لم يكن يخاف من الموت كما يعتقد السذج من الناس بحسب تعبير يوسا، بل كان إدراكه بأنَّه يحلق على ارتفاع ثلاثين ألف قدم في الجو بسرعة ثمانمئة ميل في الساعة يجعلك تصاب بالرعشة. 

فعمل على تجربة عدة حلول كان قد اقترحها عليه أصدقاؤه؛ كاتخاذ تميمة -جالب للحظ- ما، أو تجرع الكحول خلال الرحلة، أو تناول بعض الأدوية المضادة للقلق؛ لكنّها كلها باءت بالفشل، إلى أن هيأت له الصدفة روايةً كان قد اشتراها من مكتبة المطار، فاستغرقت منه قراءتها عشر ساعات كاملة وهي ذات المدة التي استغرقتها الرحلة الجوية، ثمَّ أصبحت عادة لديه مع الوقت لاختيار الكتاب الذي سيرافقه خلال الرحلة، وهذا كان علاجَ رعشته حين يطير:

"إنه العلاج الذي لم يخيبني قط منذ ذلك الوقت، عليَّ فقط أن أختار لكل رحلة التحفة التي تستغرق المدة كلها، فأعيش فيها المعنى الحقيقي لقانون الجاذبية".

ولم تقتصر قراءاته التي شغلته عن مخاوف الرحلات الجوية على الكتب الجديدة بل وجدها فرصة لإعادة قراءة بعض الأعمال القديمة التي تستحق إعادة القراءة.

ويظهر امتنانًا للكمية الكبيرة من الأدوية في "الصيدلية الأدبية" التي يمتلكها كناية عن المكاتب والكتب.

الكاتب الياباني هاروكي موراكامي (Haruki Murakami):

يستعرض موراكامي بدايات حياته بصفته شابًّا في مقتبل العمر بدأ مشروع حياته في امتلاك مقهى صغير خيارًا في أن يكون مستقلًا في عمله بعيدًا عن وطأة العمل المرهق تحت رحمة الشركات ومدرائها، ومن ثم المصاعب التي اعترضت طريقه والتي لم تجعله يتراجع.

وفي أثناء تلك المدة كلها لم يكن يُخيل له بأنَّه سيكون كاتبًا يومًا ما، أو حتى لم يكن يفكر في ذلك.

ولكنَّ شغفه في القراءة كان جليًّا حين لم يسمح لظروفه الصعبة أن تحرمه تلك المتعة. 

وفي أثناء حضوره لإحدى مباريات البيسبول لفريقه المفضل -وهو يذكر تفاصيل ذلك اليوم على وجه كبير من الدقة- وفي غمرة اندماجه مع مجريات تلك المباراة شعر وكان وحي الكتابة قد هبط من السماء، يقول في وصف هذه اللحظة: "لكأن شيئًا قد نزل يرفرف من السماء، فأطبقت عليه يديَّ بشدة".

 وبدأت رحلته مع الكتابة مع تلك السويعات التي تسبق الفجر والتي كانت تمثل وقت فراغه الوحيد، وكانت روايته الأولى (أسمع الريح تغني) من فئة النوفيلا، وذلك لضيق الوقت الذي استغرقه في كتابتها، ولكنَّه لم يكن معجبًا بذلك العمل، وهو يعترف بأنَّه لم يكن ملمًّا بمهارات كتابة الرواية حينها؛ ممَّا أصابه بالاكتئاب واقترح على نفسه أن يبدأ بسكب أفكاره على الورق أيًّا كانت النتائج، ولكنَّ الأمر لم يكن بتلك السهولة، "وبقدر ما كان الحديث عن سكب الفرد أفكاره ومشاعره بحرية أمرا سهلا، كان التطبيق عسيرا لاسيما على مبتدئ مثلي".

ولكن؛ بدأ من جديد، وفي هذه المرة استخدم اللغة الإنكليزية على الرغم من قلة مهارته في استخدامها بوصفها لغةً أدبية، ولكنَّ ذلك مكَّنه من الكتابة بتعابير أكثر بساطة وأقل تكلفًا من تلك التي كان يستخدمها في لغته الأم: "مكنتني الكتابة بلغة أجنبية – بكل ما تنطوي عليه من قيود _ من إزالة هذه العقبة".

وعلى إثر تجربته تلك اكتشف بأنَّ عدة كتَّاب حول العالم أبدعوا في عالم الأدب عندما كتبوا بلغات أجنبية، وبعد أن عادت إليه ثقته بنفسه عاد إلى الكتابة.

ويقرُّ موراكامي بأنَّ قد تعرَّض للنقد؛ فاستخدامه للغة أجنبية يُعدُّ تهديد للغته القومية، ولكنَّه يعترف لنفسه بروح المغامرة وبأسلوبه المتفرد الذي ميزه عن بقية الكتاب اليابانيين. 

ويذكر صدمته عندما رُشِّحت رواية (أسمع الريح تغني) عن جائزة الكتاب المبتدئين، ثم ألحقها برواية (الكرة والدبابيس) بصفتها تكملة للرواية الأولى، وهو يعترف بأنَّ هذين العملين على بساطتهما كانا قد مهدا الطريق ليتفرغ للكتابة وليصبح الروائي الذي هو عليه اليوم: "لقد كان وجود هاتين الروايتين ثمينا وحاسما في حياتي آنذاك، إذ أنَّهما أثلجا صدري وشجّعاني على المضيِّ في دربي".

الكاتب الإسباني - الكندي يان مارتل (Yann Martel):

يقدم الكاتب في مقالته شرحًا مفصلًا عن روايته الشهيرة (حياة باي)، ويركز على عوامل ثلاثة في مقولته: "أعتقد أن معظم الكتب تأتي من المزيج ذاته لعناصر ثلاثة وهي: التأثر والإلهام والعمل الجاد". 

بالنسبة إلى تأثر، يُرجِع الكاتب هذا العامل إلى ملخص رواية كان قد قرأها في إحدى الصحف وكانت قد تركت في نفسه تأثيرًا قويًّا، وعلى الرغم من نقده لكاتب المقال، ولكنَّ ما استوقفه كان (الفكرة) على حد تعبيره، وإسقاطاتها حول اليهودي وهو الناجي الوحيد والنمر الأسود في قارب واحد: "كان له أثر الكافيين المثير في مخيلتي". 

وفي باب الإلهام، في رحلته الثانية إلى الهند، وصل إلى مدينة بومباي المزدحمة، ولكنَّ وحدته جعلته يغرق في دموعه منتحبًا لكون حياته تتجه نحو المجهول دون أي نجاح يُذكر، وهو أيضًا دون عائلة ودون وظيفة، وقد كان خليط تلك المشاعر كفيلًا بأن يجعل همته في الحياة تذوي، ولكنَّ تأثير ذلك كان على العكس، وظهر عندما ذهب في إحدى رحلاته ليتعرف إلى المدينة، فتوجه إلى تلة لا يمكن الصعود إليها إلا سيرًا على الأقدام شعر وكأنَّه امتلأ بالأفكار: "وفجأة، امتلأ ذهني بالأفكار حتى كدت لا أستطيع مواكبتها". 

أما العمل الجاد، فكان استثمار الوقت في الهند لإخراج العمل الروائي الذي اعتزم عليه؛ إذ زار حدائق الحيوانات جميعها وكثيرًا من المعابد والكنائس والمساجد، ثم اكتشف عن قرب الجغرافيا التي ستدور فيها أحداث روايته.

وبعد أن عاد إلى كندا قرأ عدة كتب عن المسيحية والإسلام والهندوسية، وكتبًا أخرى في علوم الحيوانات. 

ودوَّن الملاحظات في كل مكان وجد نفسه فيه، وبعد كثيرٍ من العمل والبحث بدأت تتبلور لديه الرواية تدريجيًّا إلى أن ظهرت بالشكل الذي أراده: "مهما كان مصير الرواية، فإنني سأكون سعيدًا بها، لقد ساعدتني على فهم العالم الذي أعيش فيه بشكل أفضل نسبيًّا".

معلومات الكتاب:

مجموعة مؤلفين.(2018). حياة الكتابة. إعداد وترجمة: الزماي، عبد الله. (ط1). تونس، مسكيلياني. عدد الصفحات: 130