الغذاء والتغذية > منوعات غذائية

الأمن الغذائي العالمي وواقعه السوري

نتيجةً للأزمة التي تعيشها سورية مؤخرًا أصبحنا نسمع بمصطلح الأمن الغذائي كثيرًا، فماذا عن واقعنا الغذائي السوري؟ وهل يعد العالم مكانًا آمنًا غذائيًا أساسًا؟ سنتعرف الجواب في هذا المقال..

أثرت الأزمة التي عاشتها سورية مؤخرًا في كثيرٍ من النواحي المعيشية، ونتيجةً لذلك أصبحنا في الآونة الأخيرة نسمع بمصطلح الأمن الغذائي كثيرًا، فماذا عن واقعنا الغذائي السوري؟ وهل يعد العالم مكانًا آمنًا غذائيًا أساسًا؟

قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة ونتعرف تفاصيل واقع الأمن الغذائي السوري، سنتعرف معًا إلى الأمن الغذائي Food security وتاريخه وأبعاده، ونلقي نظرةً على تصنيف الأمن الغذائي إلى مراحل متعددة كي نتمكن من فهم واقعه الحالي في سورية..

ما هو الأمن الغذائي؟ وما تاريخ هذا المصطلح؟

تطورت مفاهيم الأمن الغذائي في السنوات الثلاثين الماضية لتعكس التغييرات التي طرأت على التفكير السياسي الرسمي، حتى أصبح لدينا قرابة 200 تعريف للأمن الغذائي وضعتها المنظمات الدولية المختلفة ووزارات الزراعة والغذاء حول العالم (1)، لكن تحديد مفهوم الأمن الغذائي قد مرَّ في مراحلَ كثيرة، فقد نشأ المصطلح الأول في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، عندما حدد مؤتمر الغذاء العالمي عام 1974 تعريف الأمن الغذائي من حيث الإمدادات الغذائية وضمان توافر المواد الغذائية الأساسية واستقرار أسعارها على المستويين الدولي والوطني وعرَّفه على أنّه "توافر الغذاء في جميع الأوقات بما يكفي الإمدادات العالمية الأساسية منه، للحفاظ على التوسع المتزايد في استهلاك الأغذية وتعويض التقلبات في الإنتاج والأسعار".

وفي عام 1983، ركز التحليل الذي أجرته منظمة الأغذية والزراعة FAO على إمكانية الوصول إلى الغذاء، فظهر تعريفٌ جديدٌ قائمٌ على التوازن بين العرض والطلب في معادلة الأمن الغذائي وهو: "التأكد من أنّ جميع الناس لديهم إمكانية الوصول المادي والاقتصادي إلى الغذاء الأساسي الذي يحتاجونه في جميع الأوقات" (2).

أما في عام 1986، فقد ركز تقرير البنك الدولي World Bank على حالتَي الفقر والجوع، فميّز بين انعدام الأمن الغذائي المزمن المرتبط بمشكلات الفقر وانخفاض الدخل، وبين انعدام الأمن الغذائي العابر الذي يرتبط بالضغط الناجم عن الكوارث الطبيعية أو الانهيار الاقتصادي أو الصراعات والحروب، فعرفه على أنّه "وصول جميع الناس في جميع الأوقات إلى ما يكفي من الغذاء لحياة نشطةٍ وصحية".

وبحلول منتصف التسعينات، اعتُرِف بالأمن الغذائي بوصفه مصدرًا حقيقيًًا للقلق على المستوى الفردي والعالمي، وهذا ما أدى إلى توسعة التعريف ليشمل سلامة الغذاء والتوازن الغذائي، وبناءً على ذلك اعتمد مؤتمر القمة العالمي للأغذية لعام 1996 تعريفًا أكثر تعقيدًا، وهو: "يتحقق الأمن الغذائي، على المستويات الفردية والأسرية والوطنية والإقليمية والعالمية، عندما يحظى جميع الناس في جميع الأوقات بإمكانية الوصول المادي والاقتصادي الآمن إلى ما يحتاجونه من الغذاء الكافي والمغذي اللازم لتلبية احتياجاتهم وتفضيلاتهم الغذائية لحياةٍ نشطةٍ وصحية". وقد نُقِّح هذا التعريف ثانيةً في عام 2001 ليصبح: "الأمن الغذائي هو حالةٌ تتحقق عندما يحظى جميع الناس في جميع الأوقات بإمكانية الوصول المادي والاجتماعي والاقتصادي إلى غذاءٍ كافٍ ومأمونٍ ومغذٍ يلبي احتياجاتهم الغذائية وتفضيلاتهم للطعام وذلك لحياةٍ نشطةٍ وصحية" (1)، وبذلك أصبح الوصول إلى هذا المفهوم إنجازًا بارزًا حقَّقه مندوبو مؤتمر القمة العالمي للأغذية. واليوم، أصبح الغذاء حقًّا من الحقوق المنصوص عليها في الدستور في أكثر من 40 دولةً حول العالم (2).

أبعاد الأمن الغذائي:

حسب التعريف الرسمي للأمن الغذائي، تتمثل أبعاد هذا المفهوم بالنقاط الآتية:

· التوافر المادي للغذاء: ويعالج هذا البُعد جانب توافر الغذاء الذي يُحدده مستوى إنتاج الغذاء ذي الجودة المناسبة سواء كان إنتاجًا محليًّا أم مستوردًا، إضافة إلى مستويات مخزون الغذاء والربح التجاري الصافي للمبادلات الغذائية (بما في ذلك المعونة الغذائية).

· الوصول الاقتصادي والمادي للغذاء: إنّ الإمداد الكافي من المواد الغذائية على المستوى الوطني أو الدولي لا يضمن في حد ذاته الأمن الغذائي على مستوى الأسرة، مما أدى إلى تركيزٍ أكبرَ للسياسات الغذائية على الدخل والإنفاق والأسواق والأسعار لتحقيق أهداف الأمن الغذائي.

· الانتفاع الغذائي: ويُفسَّر بأنه الطريقة التي يستفيد بها الجسم من العناصر الغذائية المختلفة في الطعام؛ إذ إنَّ الطاقة والمغذيات اللازمة للفرد هما نتاج ممارسات الرعاية والتغذية الجيدة وإعداد الطعام وتنوع النظام الغذائي إلى جانب الاستخدام البيولوجي الجيد للأغذية المستهلكة، وهو ما يحدد الوضع الغذائي للأفراد.

· استقرار الحصول على الغذاء مع الوقت: كي يكون الغذاءُ آمنًا يجب أن يحصل السكان أو الأسرة أو الفرد على غذاء كافٍ في جميع الأوقات مع ضمان عدم الشعور بخطر فقدانه نتيجة الأزمات المفاجئة أو الأحداث الدورية (مثل انعدام الأمن الغذائي الموسمي). ولذلك يمكن أن يشير مفهوم الاستقرار إلى توافر الغذاء وإمكانية الحصول عليه في آنٍ معًا (3).

ماذا يعني انعدام الأمن الغذائي؟

يرتبط تحقيق الأمن الغذائي بتحقيق أبعاده الأربعة السابقة، وغيابُ واحدٍ منها يعني الدخول في حالة انعدام الأمن الغذائي، والذي يقسم بدوره إلى نوعين هما:

· انعدام الأمن الغذائي المزمن: يمتد على مدى فترةٍ طويلةٍ يكون فيها الناس غير قادرين على تلبية الحد الأدنى من متطلباتهم الغذائية على مدار فترةٍ زمنيةٍ مستدامةٍ، وينتج عن فتراتٍ طويلة من الفقر وعدم كفاية الوصول إلى الموارد الإنتاجية أو المالية.

· انعدام الأمن الغذائي العابر: ويمتد على مدى فترةٍ قصيرة ومؤقتة، ويحصل عند الصدمات والتقلبات والانخفاض المفاجئ في القدرة على الإنتاج أو الحصول على ما يكفي من الغذاء اللازم للحفاظ على حالة غذائية جيدة، مثل اختلاف مردود الإنتاج من سنة لأخرى، أو اختلاف أسعار المواد الغذائية وغير الغذائية الداخلة في الإنتاج، واحتمال عدم كفاية اليد العاملة وعدم وجود توازنٍ بين دخل الأسرة والأسعار نتيجة تقلبات السوق، وهذا ما لا يمكن التنبؤ به نسبيًا، مما يجعل التخطيط للتغلب عليه أكثر صعوبة من النوع المزمن (3).

وقد وُضع تصنيفٌ متكاملٌ لمراحل الأمن الغذائي يعرف بـIPC، ويُميز هذا التصنيف الدولي مراحلَ الأمن الغذائي وحالاته الإنسانية ويمنح كلًّا منها تعريفها الخاص يوضحها الجدول الآتي (4):

هل يعيش العالم في حالة من الأمن الغذائي؟

يمرُّ عالمنا في تغيرٍ دائم يحمل معه تحدياتٍ جديدةً يجب التغلب عليها إذا أردنا العيش في عالم خالٍ من الجوع وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، فالاقتصاد العالمي لا ينمو كما المتوقع، كذلك يؤثر تغير المناخ وزيادة تقلبه في الإنتاج الزراعي والموارد الطبيعية، فضلًا عن انخفاض عدد العاملين في الزراعة عمومًا، وكلها عوامل أدت إلى تحولاتٍ كبيرة في طريقة إنتاج الغذاء وتوزيعه واستهلاكه حول العالم، ووضعت تحديات وعقباتٍ جديدةً أمام تحقيق الأمن الغذائي والقضاء على الجوع بحلول عام 2030.

وبحسب الإحصاءات الأخيرة لبرنامج الأمن الغذائي والتغذية الصحية التابع للـ FAO، يعاني أكثر من 820 مليون شخص في العالم من الجوع حتى اليوم؛ أي إن هناك زيادةً قدرها 10 ملايين شخص مقارنة بعام 2017، وبمعنى آخر فإنَّ شخصًا من بين كلّ تسعة أشخاص يعاني من الجوع حول العالم.

من جهةٍ أخرى، يعاني قرابة 2 مليار شخص في العالم من انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد، ويتركز على نحو أساسي في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، لكنَّه يؤثر في 8% من سكان أمريكا الشمالية وأوروبا أيضًا (5).

في ظل الحرب الطويلة التي تمر بها سورية، ما هو واقع الأمن الغذائي فيها؟

عشرة أعوام مرت ولم ينجح إلا قلةٌ من السوريين بالنجاة من الآثار المباشرة وغير المباشرة لواحدةٍ من أكبر الأزمات في العالم، وما زال ملايين السوريين يعتمدون على المساعدات الإنسانية من أجل البقاء على قيد الحياة حتى اليوم. فقد تسببت سنوات الأزمة في معاناةٍ شديدةٍ للمجتمع وقدرته على التعافي والنهوض. وانطلاقًا من ذلك اعتمدت الأمم المتحدة UN عدةَ برامج للمساعدة في سورية، ويعد برنامج الاحتياجات الإنسانية في سورية HNO أحد برامج الأمم المتحدة التي تهدف إلى توفير البيانات الإنسانية المحصاة وتحليلها وتحديد المساعدات الواجب تقديمها، وقد نظَّم قطاع الأمن الغذائي التابع للأمم المتحدة ومنظمة الأغذية والزراعة في سورية تحليلًا شاملًا لاحتياجات الأمن الغذائي ابتداءً من عام 2012 وحتى اليوم (6).

ووفقًا لتقرير HNO لعام 2018، يعاني 6.5 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي الحاد، فضلًا عن 4 ملايين شخص آخرين معرضين لخطر المعاناة من انعدام الأمن الغذائي الحاد بسبب استنزاف سبل عيشهم. ويمثل هؤلاء الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد والمعرضون لخطر انعدام الأمن الغذائي قرابة 54% من سكان سورية (7).

أما في العام 2019، فقد أشار تقرير وضع الأمن الغذائي إلى معاناة 6.5 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي، إضافةً إلى وجود 2.5 مليون شخص من المعرَّضين لخطر انعدام الأمن الغذائي. ويُقدر أنَّ 40% من السوريين يصرفون 65% من نفقاتهم لتأمين الغذاء، وأن 57.2% من الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي لديها ديون مستحقة، و65% من الأفراد الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي أيضًا يعتمدون على المعونات والمساعدات، و83-89% من السكان يعيشون تحت خطوط الفقر.

كذلك أشارت إحصائيات البنك الدولي إلى خسائر تراكمية في الناتج المحلي الإجمالي بقيمة 226 مليار دولار بين عامي 2011 و2016، منها 16 مليار دولار من الخسائر والأضرار التي تُعزى إلى قطاع الزراعة وحده، وقد أصبح الأمن الغذائي مهددًا بسبب الفقر وقلة الموارد الزراعية حتى أصبحت الحصة الغذائية الشهرية مع المواد الأساسية تكلِّف 80٪ على الأقل من الراتب الشهري للعاملين بغير الوظائف الحكومية، و50-80٪ من الراتب الشهري للموظفين الحكوميين؛ وهذا يعني وجود "فقراءٍ عاملين" في سورية (6).

وتعود الأسباب الرئيسية لانعدام الأمن الغذائي في سورية إلى مجموعةٍ من العوامل المترابطة المتعلقة بتدهور الاقتصاد، فضلًا عن انعدام الأمن الغذائي الناجم عن النزوح الجماعي، وفقدان سبل العيش وانخفاض القدرة الإنتاجية، والوصول المادي والمالي المحدود للغذاء، وارتفاع الأسعار والتضخم، وانخفاض القوة الشرائية. وعلى الرغم من التحسنِ النسبي في توفر الغذاء في الأسواق مقارنةً ببعض السنوات السابقة، لكنَّ ارتفاعَ سعرِ صرف الليرة السورية وتكاليفِ النقل وانخفاضَ الطلبِ بسبب ارتفاع معدلات البطالة والقوة الشرائية المحدودة تعدُّ من أهم الأسباب التي تُعيق تنشيط الأسواق.

من جهةٍ أخرى، ساهمت عقوبات الاستيراد المفروضة على سورية في انخفاضٍ كبيرٍ في توافر المدخلات الزراعية والغذائية عالية الجودة، وقد ذكر التقرير أن المؤسسة العامة لإكثار البذار توقعت توفُّر 36500 طن فقط من البذور لموسم الزراعة الشتوية لعام 2018-2019، مقارنةً بمتوسط ​​300000 طن كانت تقدمها للمزارعين قبل الأزمة، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض الإنتاج في المواسم الحالية واللاحقة، ويشير أيضًا إلى نقصٍ في توافر المواد الغذائية الأساسية. وبطريقةٍ مشابهة، يتعرض الإنتاج الحيواني لمزيدٍ من القيود بسبب انخفاض عدد الماشية بالمقارنة مع آخر تعدادٍ شامل للثروة الحيوانية أُجري في عام 2010، فوفقًا لوزارة الزراعة والإصلاح الزراعي انخفضت أعداد الأغنام بنسبة 45%، وأعداد الماعز بنسبة 30%، وأعداد الماشية بنسبة 40%، وأعداد الدواجن بنسبة 55% خلال السنوات الثلاث الأولى من الأزمة، فضلًا عن التحديات التي يفرضها ارتفاع سعر الأعلاف وعدم كفاية تغطية الخدمات البيطرية.

الجدير بالذكر أن التوقعات تشير إلى استمرار ارتفاع الاحتياجات الإنسانية في سورية في الأعوام المقبلة، مع الحاجة إلى اتخاذ إجراءاتٍ متعددةٍ لضمان المعالجة الكافية لركائزِ الأمن الغذائي الأربع والمتعلقةِ بالوصول إلى الغذاء وتوافره واستخدامه واستقراره. ويمكن لذلك أن يتحقق من خلال إنقاذ الحياة الإنسانية، والاستدامة، والمرونة المناسبة، وتدخلات التعافي المبكر، والاستجابة للطوارئ بالإضافة إلى المساعدات الغذائية والزراعية الطارئة التي من شأنها تلبية العجز الغذائي للسكان، فقطاع الزراعة يساهم بـ25-30% من الناتج المحلي الإجمالي، فضلًا عن أنه يلبي احتياجات الغذاء لأكثرَ من نصف السكان، وهذا يؤكد على ضرورة إنقاذ هذا القطاع وما يتصل به من سبل العيش الزراعية واستعادته وحمايته مستقبلًا (6).

المصادر:

1. Clay, E. Trade Reforms and Food Security. In: Food Security Concepts and Measurement. Rome:Food and Agriculture Organization FAO; 2003. 315. هنا

2. Food and Agriculture Organization FAO . Food Security, Policy Brief: FAO’s Agriculture and Development Economics Division (ESA) with support from the FAO Netherlands Partnership Programme (FNPP) and the EC-FAO Food Security Programme; 2006. 4. هنا

3. Food and Agriculture Organization FAO. An Introduction to the Basic Concepts of Food Security: Published by the EC - FAO Food Security Programme; 2008.3. هنا

4. Food and Agriculture Organization FAO. Integrated Food Security Phase Classification. Rome : FAO/FSAU; 2006.67. هنا

5. Food and Agriculture Organization FAO. The state of food security and nutrition in the world. Rome:Food and Agriculture Organization FAO; 2019. 239. هنا

6. Humanitarian Needs Overview (HNO). Humanitarian Needs Overview2019 in Syrian Arab Republic . Syria: United Nations (UN) and (HNO); 2019.90. هنا

7. Humanitarian Needs Overview (HNO). Food Security Situation in Syria Expanded version of the Food Security Sector Humanitarian Needs Overview 2018. Syria: United Nations (UN) and (HNO) ; 2017. 40. هنا