كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (في الطابق الرابع): من الصحافة إلى صناعة الأفلام

"يُحضِّر الناس عادةً لتجاربهم في الحياة. يعدّون أنفسهم، يختارون أدواتهم، ويحددون المنافذ التي يدخلون منها. البادئون بالتجارب يأخذونها بالتدريج، باردةً فدافئة، حتى تسخن ثم تلتهب. لم أتذكر أني تمتعت بهذه الرفاهية يومًا. أنا أجد نفسي سابحًا في الهواء، ثم بلا مقدمات، في قلب اللهب. هذا ما حدث معي تمامًا في تجربة صناعة الأفلام."

بهذه الكلمات الرقيقة يصف نوفل الجنابي تجربته في اكتشاف شغفه، معلنًا قصة حبِّه لمهنةٍ لم تكن تراوده حتى في أحلام يقظته أيام المراهقة.

إنَّه ابن العراق، الصَّحافي المتمرس، والعاشق للصورة، والمفتون بالتصوير الفوتوغرافي. 

وكتابه (في الطابق الرابع) ما هو إلا سردٌ لقصة لعبة البازل puzzle، التي عمل سنواتٍ على تجميع قطعها، ثم اهتدى أخيرًا إلى وَضْع كل قطعةٍ في مكانها المناسب.

دخل الجنابي عالم الصحافة عام 1979، وبعد خبرةٍ طويلةٍ فيها تجاوزت العشرين عامًا قرَّر الولوج إلى عالم صناعة الأفلام إعدادًا وإنتاجًا وإخراجًا.

فمنذ العام 2004، عمل ضمن قناة العربية على إعداد عديد من الأفلام الوثائقية والبرامج وإخراجها، ثم أسس بعدها شركته الخاصة للإنتاج (نوفل الجنابي للإنتاج). 

وله ثلاثة كتب هي (الحلّة: عاصمة السخرية العراقية) و(المراسلون الجريئون)، وآخرها سيرته الذاتية (في الطابق الرابع) (1).

ويستهل الجنابي كتابه بالحديث عن علاقته بالصورة، منذ أن كان طفلًا يستأجر كاميرا حميد -ابن صاحب الاستوديو في قريته- لكي يصور الشمس أو الشاطئ حتى أصبح ممسوسًا بالصورة بوصفها جزء لا يتجزأ من تحقيقه الصحفي.

وقد أدرك الجنابي أنَّ العالم العربي آنذاك كان يفتقر إلى ثقافة الصورة، فوصف ذلك بقوله: "في الصحافة العربية، الحرف سيد والبصر عبد"؛ لذلك كان يضطر إلى إرفاق تحقيقاته بصورٍ من تصويره الشخصي، ما أكسبه خبرةً عمليةً، وجعل ذائقته البصرية في حالة تأهبٍ وتطورٍ دائم.

وينتقل الجنابي بعدها إلى لقائه الأول مع الصورة المتحركة في محطة العربية في دبي، ليُكلَّف بعد فترةٍ قصيرةٍ بكتابة سيناريو لفيلم عن الدستور العراقي، ثم بإنتاجه وتصويره. وقد بدت له المهمة أقرب إلى المجازفة، وليس أخطر ما فيها أنَّ التصوير سيكون في بغداد ما بين الانفجارات والقنابل.

(الدستور حكاية عراقية) هو عنوان الفيلم،  والذي يتناول فيه ظروف وَضْع دستور جديد للعراق عام 2003 بعد أن كان آخر تحديث للدستور عام 1960. 

شدتني تفاصيل تصوير الفيلم لدرجة جعلتني أقاوم إغراء الاستمرار بالقراءة لأقفز إلى اليوتيوب لمشاهدته، وقد عرفني ذلك عن كثب على الفرق الهائل ما بين المنتج النهائي الذي نشاهده وحقيقة الأمر خلف الكواليس.

يضيف الجنابي بصمته الخاصة في الإعداد والإخراج في أعماله التي رسمت مسيرته كلها، فلديه رغبةٌ دائمةٌ في إظهار خبايا الحكايات التي نعرفها جميعًا وتخفى عنا تفاصيلها الإنسانية.

ففي سلسلته الشهيرة (عين على مكة والمدينة)، والتي عرضت سنوات متتالية في شهر رمضان، قدَّم الجنابي المدينتين صاحبتي القدسية دينية تقديمًا غير مألوفٍ أو متوقع، وقد وصف ذلك بقوله: "يعني ما أريد الكعبة، أريد خطاط كسوتها، ما أريد بير زمزم، أريد فخار زمزمياته، أريد الحمام الطائر فوق الحرم والصبي داخل العربة، ومن مكة الأكبر أريد أن أتقصى الرغيف وحلقة الإنشاد والعمدة وبشكته، أريد الحياة خارج الصورة المرتبة والصورة النمطية التي يعرفها الجميع."

يأسرك الكتاب من البداية حتى النهاية، بأسلوبه الساحر ولغته الممعنة في البساطة والرشاقة، فإن كنت مجرَّد فضولي، تتشوق إلى معرفة أسرار هذا العالَم، فهو نوعٌ من المتعة الخالصة؛ أما إن كنت متخصصًا أو هاويًا ترغب في الدخول إلى هذا العالَم بنفسك، فالكتاب هو كنزٌ حقيقي، لا بالمعنى الأكاديمي؛ بل لكونه جامعًا للخبرات العملية والتحديات الحقيقية التي تواجه صانع الأفلام على أرض الواقع. 

معلومات الكتاب:

الجنابي، نوفل. في الطابق الرابع (2019). لبنان: دار الرافدين. عدد الصفحات: 220.

المصادر:

[1] هنا