العمارة والتشييد > التصميم العمراني وتخطيط المدن

العمران المعاصر بين الحداثة والتراث

ترتبط العمارة بحضارة الشعوب وتطورها، ويمثِّل الطابع العمراني للمدينة جزءًا من هويتها وتاريخها ويشكِّل انعكاسًا لثقافتها، ولا شكَّ أنَّ تطور الزمن وانتشار العولمة جعل التحدُّث عن الثقافة الأصيلة أو المحلية الكاملة صعبًا، وأصبح الوصول إلى إنتاج عمراني يتلاءم مع الخصوصية الاجتماعية والثقافية للمدينة ويلبي احتياجات الحياة المعاصرة في الوقت نفسه من التحديات الكبرى.

من إفريقيا إلى آسيا إلى القارة الأميركية وغيرها تسلِّط مجلة ميتروبوليس (Metropolis) الضوء على مشاريع مثيرة للاهتمام تمزج النمط المعماري القديم والحديث بما يلبي متطلَّبات الحداثة ويحافظ على الطابع المعماري التقليدي في الوقت نفسه (1).

                                                                                  

1. البيرو، ليما (Lima, Peru):  

بعد تأثُّر البيرو بالصراعات الداخلية التي حدثت في البلاد في أواخر عشرينيات القرن الماضي واضطرار المهندسين المعماريين إلى السفر خارج البلاد للدراسة والعمل، عاد المعماريون بحلول في أواخر التسعينيات مع تحسُّن وضع البلد. ومن المفارقات أن تجربة العمل في الخارج دفعتهم إلى إعادة البحث في الهندسة المعمارية القديمة وتقنيات التصميم التي ما تزال صالحةً حتى اليوم.

من أبرز المعماريين الثنائي ساندرا باركلي (Sandra Barclay) وجان بيير كروس (Jean Pierre Crousse)؛ إذ مزجت أعمالهم تقنيات البناء التقليدية بتعبير معاصر آخذين بالحسبان طبيعة ومناخ المكان، وتُعَدُّ مكاتب (Beehive) المصمَّمة على شكل خلية نحل في عاصمة البيرو ليما (Lima)  من أهم أعمال الثنائي، وقد دُعم المبنى من الخارج بهيكل خرساني يشكِّل جزءًا من الواجهة ويسمح بزيادة المساحات الداخلية للحد الأقصى، وقد كثرت أعمالهم خارج العاصمة ومنها المباني المنتشرة على طول ساحل البيرو والتي ساهمت في وضع مناطق ومدن صغيرة على الخريطة (1, 2, 3).

2. الأرجنتين، بيونس آيرس (Buenos Aires, Argentina):

يقع نهر ماتانزا (Matanza) في العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس بجوار حي اللابوكا (La Boca) الذي يُعدُّ الموطن الأصلي للتانغو ويتمتع بأهمية كبيرة في الثقافة الأرجنتينية، وقد كان مقصد المهاجرين الإسبان والإيطاليين إلى البلاد في أواخر القرن العشرين، لكنَّ انتشار الفقر والجريمة منذ عقود عدَّة حوَّله إلى مكانٍ سيِّئ السمعة، الأمر الذي دفع الفنانة باولا فيغا (Paola Vega) ومجموعة الفن المحلي (Triba) إلى ابتكار لوحةٍ جداريةٍ نابضةٍ بالحياة على امتداد جدار النهر بعنوان إسبليندور (Esplendor)، للاستفادة من المساحات المهملة. تشكِّل هذه الجدارية انعكاسًا مشرقًا للنهر، ويمكن رؤيتها من القوارب والطائرات والمتنزَّه المقابل للنهر، أنجزت مجموعة الفن المحلي أعمال عدَّة في جوار النهر، ويُعَدُّ سيكولارما (Ciclorama) للفنانة ماريانا سيسيا (Mariana Sissia) أحد المعالم البارزة في الحي، وهي محطة قديمة لتوليد الطاقة الكهربائية أعيد فتحها لتعمل بوصفها مركزًا ثقافيًّا في العام 2011 (1, 3, 4).

3. ألبانيا، تيرانا (Tirana, Albani):

لكي تتمكَّن من إدراك الشكل الحالي للعاصمة الألبانية  تيرانا (Tirana) يجب أن تتعرَّف إلى اسمين؛ الأول هو انفرهوشا (Enver Hoxha) الحاكم الشيوعي الذي أعاد بناء البلاد بعد الحرب العالمية الثانية بدعم من السوفييت والصين ثمَّ قادها إلى عزلةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ شديدة، والاسم الآخر هو إدي راما (Edi Rama) رئيس وزراء ألبانيا الحالي ورئيس بلدية تيرانا السابق والذي صادف أنَّه فنانٌ أيضًا، وعندما تولَّى مسؤولية تيرانا (Tirana) في العام 2000 كانت المدينة تعاني من تناقص كبير في الاستثمار بسبب انتشار المباني العشوائية غير المرخَّصة في أعقاب الشيوعية، فهدم المباني غير القانونية وأضاف المساحات الخضراء.

تُعَدُّ ساحة سكانديربيرج (Skanderbeg) أفضل رؤيا للتحول، انتهى تجديد الساحة في العام 2017، ورُصِفت بـ 130000 بلاطة مصنوعة من 30 نوعًا مختلفًا من الأحجار الأصلية، وفي العام 2018 حصلت على الجائزة الأوروبية للمساحة العامة الحضرية، وتعمل الساحة الشاسعة الفارغة -التي تتَّخذ شكل هرم منخفض بنسبة 3%-  على تصريف المياه من النوافير، وترتفع بعين الناظر إلى الصروح الأثرية المحيطة بها (1, 3).

4. إسبانيا، فالنسيا (Valencia, Spain): 

تأسست شركة (LZF) عام 1995 من قبل الفنانة الإسبانية ماريفي كالفو (Mariví Calvo) والموسيقي الأسترالي ساندرو توثيل (Sandro Tothill). عندما كان الثنائي يجهزان لشقتهما توصَّلا إلى فكرة تصنيع تجهيزات للإنارة مغطَّاة بقشرة خشبية، وأصبح الخشب الطبيعي هو العنصر المميز لأضواء الشركة، مدعومًا بالحرفية والتصميم المذهل الذي يعيد تشكيل المواد بطرق غير متوقعة.

 يُعَدُّ (Koi) من أكثر أعمال الشركة تميُّزًا، وهو منحوتةٌ عملاقة للضوء على شكل سمك الشبوط، صمَّمها أستوديو برشلونة (Inocuo The Sign) وطُوِّرت بواسطة (LZF)، وتُرجِم التصميم منحوتةً مضيئةً  بفضل الحرفيين المحليين الذين استخدموا طريقةً تقليديةً لنسج شرائح رقيقة من الخشب وخلق شكل متموِّج وذيل ممشوق، استوحيت المنحوتة من السطح الخشبي المتشابك المستخدم في مصباح (Armadillo) من (LZF) الذي صمَّمه لويس إسلافا (Luis Eslava)، وقد تخيلها فريق العمل شخصيةً لفيلم رسوم متحركة (1, 3).

5. أوكلاهوما، تولسا (Tulsa, Oklahoma):

لم تكن  المدينة النفطية  تولسا (Tulsa) في ولاية أوكلاهوما (Oklahoma) في الولايات المتحدة الأميريكية لتتراود إلى ذهن أحد عند التفكير في أفضل التصاميم الحديثة للمدن، لكنَّ التوسع الجديد (Gathering Place) غيَّر ذلك المفهوم الخاطئ، إذ تُعَدُّ الحديقة الحضرية الممتدة على مساحة 400000 م2 من معالم الجذب الجديدة في المدينة، تمنح الزائرين الراحة والمتعة عن طريق الدخول إلى أكواخ من خشب الأرز  أو القيقب والالتفاف حول موقد النار الضخم أو الاستمتاع بالموسيقا الحية التي تعزفها الفرق والتنزُّه في المروج الخضراء قرب الأراضي الرطبة التي تتلألأ عند الغروب، وهناك عدد لايحصى من الأماكن المدهشة ضمن هذه الحديقة.

يعود تصميم الحديقة لشركة هندسة المناظر الطبيعية (Michael Van Valkenburgh Associates)، وتهدف الفكرة إلى إظهار موارد (Tulsa) مع توفير مساحة حرة للسكان المحليين لتخيل ما الذي يمكنهم فعله في الفناء الخلفي الخاص بهم (1, 3).

6. ممفيس، تينيسي (Memphis, Tennessee):  

بدأت ممفيس (Memphis) ثاني أكبر المدن في تينيسي (Tennessee) بالتخلُّص تدريجيًّا من سمعتها التاريخية، على الرغم من الآثار السلبية المتراكمة لارتفاع معدلات الفقر والجريمة، فقد ظهر تفاؤل كبير بعودة الاستثمار إلى قلب المدينة، الأمر الذي انعكس عن طريق العديد من المشاريع لإعادة البناء والاستخدام المتكيِّف للأبنية والأراضي مثل منزل الباليه الجديد (Ballet Memphis)، والنظام الجديد لتقاسم الدراجات، ومشروع ترميم الواجهة النهرية.

ويُعَدُّ متنزَّه (Madison Avenue) في وسط المدينة من أهم المشاريع التي غيرت شكل المدينة، وقد صُمِّم على شكل إسفين من قبل شركة (Davies Toews)، وبسبب الموقع المائل؛ صُمِّمت الحديقة لتتَّخذ شكل مثلثين متجاورين مصنوعين من أرضيات خرسانية، إحدى الزوايا باتجاه الجنوب وتنتهي عند جدار خرساني حيث يمكن عرض الأفلام، ويتميَّز المثلث الآخر بوجود مقاعد خرسانية وأشجار وأعشاب، ويُستخدم جزء من المثلث المنحدر للأسفل موقعًا للمعارض الدورية في المنطقة (1, 3).

7. داكار، السنغال (Dakar, Senegal):

يقول المصمم السنغالي (Bibi Seck) مشيرًا إلى قطاع التصميم الشعبي في السنغال الذي يعتمد على التصميم الحرفي: "نحن جميعًا مصممون في داركار"، ويشير موضِّحا أنَّهم عند احتياجهم لتصميم طاولة، فإنهم يعدُّون الرسم الأساسي البسيط لها ثمَّ يستدعون أحد الحرفيين لنحت الخشب، ومع أنَّ خدمات التصميم الاحترافي في السنغال باهظة الثمن، يعاني الحرفيون من استغلال  السوق التي تفضِّل العمالة الرخيصة، الأمر الذي دفع (Bibi Seck) إلى إطلاق مبادرة باسم (Dakar Next) والتي تهدف إلى تغيير كيفية تقدير الأعمال الحرفية والتصميم في السنغال، ويأمل عن طريق مشروعه تغيير ذلك الواقع.  ركَّز (Seck) عن طريق هذه المشاريع على تغيير ممارسات العمل التي تكون غير عادلة غالبًا، وهي الشيء الوحيد الواجب تغييره ليحقق التصميم الجيد انتشارًا في جميع أنحاء السنغال (1, 3).

8. الجزائر، الجزائر(Algiers, Algeria):

اجتمع في المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر في العاصمة الجزائرية في كانون الثاني عام 2019 مجموعة من المتخصِّصين بتخطيط المدن لمناقشة اقتراح بناء جسر عبر خليج العاصمة الجزائرية، الذي اقترِحَ من قبل المهندسين المعماريين سهام ونسيم بغلي اللذين نظما "اجتماع الجزائر" (Rencontre d'Alger) في كانون الثاني. يبلغ طول الجسر كما تخيله المعماريان عشرة أميال، ويمتد من الحصن العثماني شرقًا إلى القصبة في الغرب، ويلامس الشاطئ في نقاط عدة، وقد قُدِّرت تكلفته بـ 1.5 مليار دولار، وسيكون الجسر وفقًا لوصف المعماريين بمثابة عنصرٍ أساسي في بناء الجزائر الجديدة؛ المدينة التي ما تزال تشهد حركات التمرد المناهضه للاستعمار والصراع الديني، وعند بنائه سيتغير المشهد العام في المنطقة التي يعود تاريخها لآلاف السنين (1, 3).

9. جاكرتا، أندونيسيا (Jakarta, Indonesia):

يصف المصمم الإندونيسي (Alvin Tjitrowirjo) علاقته بمدينته جاكرتا (Jakarta) بأنّها تجمع بين الحب والكراهية، ويظهر في أعماله تأثُّره الكبير بجذوره الثقافية؛ فهو -على حد قوله- يحاول  فعل شيء نابع من ثقافته الخاصة، ويسعى بواسطة تصاميمه إلى تصدير ثقافة بلاده إلى جميع أنحاء العالم، عن طريق العمل مع الفنادق والأماكن السياحية، ويُعَدُّ (Dapour 100 Eatery & Bar) أحد أهم أعماله والذي يغلب عليه الطابع الإندونيسي في تصميم الأثاث والديكور الداخلي.

 يتكون (Dapour) من مساحة رئيسية مخصَّصة لتناول الطعام و أربع غرف خاصة صُمِّمت على نحو فردي لخلق أجواء مختلفة، وقد زُيِّنت جدران المطعم باستخدام فن الباتيك من التراث الإندونيسي، في حين سيطرت الأضواء الضخمة المصنوعة من الروطان (نوع من أنواع النخيل) على السقف، وفي القسم الآخر (BAR100) شرفة أنيقة تشكِّل مساحةً مفتوحةً لتناول الطعام مع سقفٍ مرتفعٍ جدًّا، وتمنح النوافذ الموزَّعة على امتداد جانبٍ كاملٍ من المساحة الإشراق للمكان. ويأمل ألفين (Alvin) عن طريق هذا المشروع أن يضع حجر الأساس لكيفية ظهور التصميم الداخلي المعاصر بهوية محلية (إندونيسية) قوية (1, 3, 5).

10. فوكوكا، اليابان (Fukuoka, Japan):

يعكس المتحف بتصميمه أهمية الروابط الدولية للمدينة الساحلية في الماضي وفي الحاضر ، ويتميز تصميمه بالأسقف المقبَّبة التي تتَّخذ شكل أقواس متتالية ومستمرَّة، وبالشرفات المبلَّطة والركائز الإسمنتية.

استغرقت عملية تجديد المتحف قرابة ثلاث سنوات، وقد أنجزتها شركة (Azusa Sekkei) اليابانية، وأرادت الشركة خلق مساحة أكثر ألفة، لذلك أضاف المهندسون المعماريون مقهىً ومتجرًا ووسَّعوا صالات العرض لاستيعاب المزيد من الأعمال المعاصرة، وبُنيت ساحة خارجية تربط بين المتحف والمتنزَّه المجاور له (1, 3).  

هذه المدن التي اختارتها مجلة (Metropolis) في قائمتها السنوية للعام 2019، فما رأيك بهذا النمط من العمارة؟ وهل تجد أنَّها تحقِّق الغاية المطلوبة؟ 

المصادر:

1.The top 10 design citeies of 2019 [internet]. Archdaily. 2019 [cited 2 October 2019]. Available from: هنا

2. Beehive offices [internet]. Barclaycrousse. 2019 [cited 2 October 2019]. Available from: هنا

3. Metropolis Magazine’s Top Design Cities of 2019 [internet]. metropolismag. 2019 [cited 2 October 2019]. Available from: هنا

4. Ciclorama [internet]. relievecontemporaneo. 2019 [cited 2 October 2019]. Available from: هنا

5. Dapour 100 Eatery and Bar by Alvin T [internet]. floornature. 2017 [cited 2 October 2019]. Available from: هنا