كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (من الظل): هل أصبحنا نفقد إنسانيتنا؟

إنَّ رواية (من الظل) للكاتب الإسباني خوان خوسيه مياس (1946 - Juan José Millás) وهو صحفي وقاصٌّ، وقد درس الفلسفة والآداب في جامعة كوم بلوتس، ويُعدُّ من كتَّاب الجيل الذهبي لإسبانيا، ومن أشهر أعماله رواية (امرأتان في براغ) ورواية (هي تتخيل) ورواية (هكذا كانت الوحدة) التي نال عليها جائزة نادال الإسبانية عام 1990م.

تدور أحداث الرواية في مدينة مدريد عن (دميان لوبو)، وهو رجل أربعيني قد طُرِد من عمله للتو، فقد كان يعمل في تصليح الأجهزة الكهربائية، وذلك في قبو لم يكن أحد يلحظ وجوده فيه. 

ويعاني لوبو من الإهمال في مناحي الحياة جميعها، فقد وُلِد طفلًا غير مرغوب به في أسرة مؤلفة من أبوين وطفلة مُتبناة تكبره بعامين؛ تلك الطفلة التي حظيت من الحب والاهتمام ما لم يحظَ به هو نفسه؛ الطفل البيولوجي لأبويه.

تنمو جراح طفولته وتتطور مع الزمن إلى شرخ كبير أبعده عن الصورة الكاملة للعائلة.

بالإضافة إلى المشكلات الأسرية، فإنَّ نمط الحياة التي فرضتها الرأسمالية حول العالم جعلت منه إنسانًا بعيدًا عن إنسانيته، عندما تحولت مسيرة حياته إلى اتحاد مع الآلة وسباق معها في سعيه إلى الحفاظ عليها سليمةً أطول قدر ممكن، وقراءاته الوحيدة والمفضلة ليست كتبًا علمية أو روايات أدبية، وإنما كتيبات تشغيل الآلات الكهربائية وتركيبها، فهو كما وصف نفسه قد نُذِر ليقترن بالآلات إلى الحد الذي يفقد معه ماهيته البشرية.

وفي ظل انعدام التواصل العائلي واقتصار اهتمامه على عالم الميكانيك، ابتدع لوبو لنفسه عالمًا موازيًا ضمن رأسه وأفكاره، واقتصر هذا العالم على إستديو وجمهور و(سرخيو أوكان) مقدمًّا للبرامج، وهو شخصية لا وجود لها إلا في عالم لوبو؛ إذ يستعرض لوبو يوميًّا الأحداثَ التي تعترضه كلها ضمن هذا البرنامج الذي يخيل إلى لوبو بأنَّه يُذاع عالميًّا ويحقق نسب مشاهدة مرتفعة جدًّا. 

وقد يلجأ لوبو إلى عالمه هذا هربًا من الواقع الفارغ عندما يشعر بالتوتر في مواجهة بعض المشكلات، ولكن؛ أوشك عند مرحلة معينة أن يفقد السيطرة على عالمه المُتخيل في تلك المرحلة التي أدت على تغيير جذري في مجرى حياته.

"ربما يكون الرب أشهر من في الكون دون أن يراه أحد. هذه كانت السلطة، القدرة على التحكم من الظل".

ذلك التغيير الذي أودى به إلى عوالم أبعد من العالم الذي أوجده في خياله الخاص على الرغم من أنَّه لم ينقطع عن عالمه، فتحول إلى الظل عندما أدرك بأنَّ وجوده في الخفاء يحدث أثرًا في حياة الآخرين أقوى ممَّا يمكن أن يحدثه لو أنَّه أكمل حياته على نحو روتيني، فأُعجب لتلك الحال، وبدأ مع توالي الأيام في حالته تلك تنقص احتياجاته الجسدية، فدخل في حالة من الصيام إلا عن الماء، ولكنَّ ذلك انعكس على حالته الوجودية وبدأ يؤمن بوجوده بصفته شبحًا أكثر منه إنسانًا، ولم يشعر بأثره إلا رهافة امرأة، ممَّا حدا به إلى أن يحس بوجوده لأول مرة في حياته، فبذل جهده لحمايتها والاهتمام بها، ولكن؛ عن بعد، وربما لأنَّ فاقد الشيء أكثرُ من يعطيه.

يقدم الكاتب إسقاطات مهمة ويشير إلى معانيها بوضوح.

فعلى سبيل المثال؛ الطفلة المُتبناة من أصول صينية يصرح لوبو بشأنها بأنَّ أبويه قد اشترياها وكأنَّها صفقة اقتصادية؛ ولذلك الأمر كانا يوليانها الأفضلية والأهمية على حد تعبيره، وفي ذلك إشارة إلى انحدار القيم الإنسانية في ظل الأنظمة الاقتصادية التي تعمل على قتل كل ما هو حي في دواخلنا عن طريق تحويله إلى مواد صرفة تُقدَّر بحفنة من المال، ومنه تشويه المعاني السامية في علاقة البشر بعضهم مع بعض في تقديس أعمى للمال وتدنيس مُمنهج للعلاقات الاجتماعية.

ويكتب (مياس) بلغة متقنة وبعيدة عن المغالاة في استخدام التراكيب اللغوية والصور الأدبية في الوقت ذاته، ويُكثر من تفاصيل تحركات الشخصيات لما تعطيه من أهمية ضمن الحيز الصغير الذي تدور ضمنه الأحداث. 

ويعتمد على الحوارات القصيرة أيضًا؛ لتكون هادفة أكثر من كونها أحاديث جانبية. 

وأكثر ما يميز هذه الرواية البعدُ النفسي الذي يُبحر الكاتب في فلكه؛ هذا البعد الذي يمثِّل صلب الموضوع وذلك لتوضيح الإشكالية التي طرحها مياس في هذا العمل الروائي.

 معلومات الكتاب:

خوسيه ميّاس، خوان.(2017). من الظل. ترجمة: عبد اللطيف، أحمد.(ط.1). إيطاليا- ميلانو: منشورات المتوسط. عدد الصفحات:182 صفحة.