كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (ليون الإفريقي): حكايةُ رحَّالة أبحر في طيَّات التاريخ

رواية (ليون الإفريقي) للكاتب (أمين معلوف- Amin Maalouf) -الفرنسي ذو الأصول اللبنانية- تبدو كأنها مذكرات شخصية ترويها إحدى الشخصيات، وهو حسن الذي بدأ في سرد حكاية عائلته قبل أن يولد مما كانت ترويه له والدته (سلمى) وهي الزوجة الأولى، بالإضافة إلى الجارية (وردة) التي أحبَّها والده بينما الغيرة تكوي قلب سلمى، والجزء الآخر من ذكريات الطفولة المبكرة التي يستقيها من والده وخاله.

وتبدأ الحكاية نهاية فترة الحكم الإسلامي للأندلس وسقوط الممالك وانقسام الأمراء، والثورات والخيانات، وتداعي البلاد، ثم سقوط غرناطة وتسليم قصر الحمراء الذي أنزل أبشع الأحكام على أهلها بداية في عام الحصار.

ولم يكن حسن يبلغ عامه الثالث بعد حين اجتمع أعيان المدينة ليخرجوا بحكم شرعي يهديهم إلى الصواب فما كان منهم إلا أن يختاروا الهجرة؛ إذ إنَّها سبيل كل من ضاقت بهم السبل في موطنهم ليحموا أنفسهم.

وهكذا كانت الهجرة إلى مدينة فاس أول ترحال لحسن الطفل؛ إذ كان يعتقد الأندلسيون آنذاك بأنَّ هجرتهم مؤقتة، وبذلك كانوا يعلقون مفاتيح منازلهم التي هجروها على الجدران متأمِّلين عودة قريبة إلى الديار.

أمّا المسلمون -وكما كان مصير اليهود من قبلهم- الذين لم يتمكنوا من الهجرة كان عليهم الاختيار ما بين التعميد أو الموت  تبعًا لأحكام محاكم التفتيش التي امتازت بالوحشية كما يذكر لنا المؤلِّف أمين معلوف.

وتقدِّم الرواية شخصية حسن وروحه التواقة إلى السفر وللمعرفة والسياسة أيضًا، وهذا ما جعله رحَّالًا وتاجرًا وسفيرًا بين أهم إمبراطوريات ذلك الزمان، فهو لم يتمكن من أن يتملَّك مدينة ما أو أن تتملَّكه مدينة ما، ففي صباه المبكر بدأ رحلة تجواله في الصحراء الإفريقية بكل ما تحمله من خوف ومخاطر، ولكنَّ سحر المغامرة جعلته يتنبأ بمستقبله؛ وكان له حظ المبتدئين في التجارة على الرغم من صغر سنه، ثم كان ترحاله الآتي بغير إرادته فخرج من مدينة فاس بغير وجهة محددة إلى أن حطت رحاله في مدينة القاهرة في فترة انتشار وباء الطاعون الذي أزهق كثيرًا من الأرواح، ويقارن المؤلِّف هذا الـ(إزهاق) مع ما أزهقته سيوف المحتل العثماني الذي شهد دخوله إلى المدينة بدموية يُشهد لها لورثة أولئك السلاطين وجيوشهم. أما وجهة حسن الآتية التي تُوكل إليه على شكل مهمة رسمية فهي التوجُّه إلى عاصمة الخلافة في القسطنطينية، ولكن؛ ما لم يتوقعه هو ما حدث في رحلة العودة إلى فاس، فهو لم يصل إليها بل وجد نفسه فيما بعد في روما في حضرة الدولة البابوية، ويحمل اسمًا لم يولد به وهو اسم (ليون) المعنونة به الرواية، ويسكن أرضًا لا يتكلم لغتها، ويدخل في صراعات لم يكن يعتقد يومًا أنَّه سيكون له يد أو رأي في الحروب التي دارت بين سلاطين الشرق وإمبراطوريات الغرب، ويعيش حروبًا أخرى لا تختلف عن التي عهدها من قبل.

يقدم الكاتب الشخصية الأساسية ويعطيها عدة أسماء وكأنَّه يعدُّ بأنَّ كلًّا منا يمكن أن يحمل في داخله عدة شخصيات وقد تحمل اختلافات جذرية في بعض الأحيان، فهو طَرْح أقرب إلى فكرة اليوتوبيا من مبدأ السلام والتوافق بين الأمم المختلفة وتقبُّل الآخر ونبذ الاختلاف أو جعله اختلافًا بنَّاءً، وعدم اتخاذ أي موقف تجاه بلد دون الآخر من محبة أو كراهية، أو الانتماء إلى دين ومحاربة غيره بل أن تؤمن بها جميعها، تلك الشخصية التي تنصهر من خلالها ألوان العالم المختلفة وتظهر أسطوريًّا، فهو ليون وحسن؛ مسلم ومسيحي، كاثوليكي ولوثري، جركسي وعثماني، إفريقي ورومي، ذلك الشاب الذي يتميز بقدر كبير من الوداعة والهناء، فهو لا يغضب أو يثور بل يتعامل مع مواقف الحياة كلها بشيء من البرودة وكثير من الاستسلام خلف درب السفر حتى عندما يضعه القدر في رحلة لم يخطط لها من قبل.

ويظهر ذلك أيضًا عندما يصف العادات والتقاليد للبلاد التي وطئها كلها، فهو لا يَنتقد أو يُعجب بها بل ينساق إلى اعتناق ما يُطلب منه اعتناقه، ومما يميز هذا العمل ذلك الدمج الموفق ما بين ترحاله المستمر بين المدن والأمصار وانعكاس ذلك على حياته الشخصية ممن تزوجهن ومن أحبهن من النساء، ومن أصدقاء كانوا له خير كنز في الحياة.

ويقدم الكاتب في هذا العمل التاريخَ على شكل رواية بلغة متقنة، وتسارع هادئ للأحداث في توثيق يغلب عليه التشويق على عكس ما تعرف به كتب التاريخ من الجمود. ويَعمد أن يختار على الدوام الحقب الزمنية الحرجة التي شكلت منعطفات حادة غيَّرت الحاضر والمستقبل؛ مثل معركة مرج دابق التي دارت بين جيش المماليك المصري والعثمانيين بالقرب من مدينة حلب، وكان انتصار العثمانيين فيها بداية لاحتلال دام أربعة قرون وامتدت حدود السلاطين إلى رقعة جغرافية جعلتها إمبراطورية لا يُستهان بها.

وفي توثيق آخر في الغرب وذلك عندما كانت السلطة البابوية في روما مهددة بحركة الإصلاح الديني اللوثري في ألمانيا وعملت المعاهدات السياسية والأحلاف بين بابا روما وفرنسوا ملك فرنسا وسلطان العثمانيين للحيلولة دون وقوع بلادهم تحت سلطة إمبراطور إسبانيا (شارل)، ولكن؛ تلك العهود نكصت حينما لم تتوقف أطماع شارل عند حد معين واتفق ذلك مع الجرمانيين من أنصار المبشر لوثر، وكان سقوط روما المدوي والمؤلم.

 معلومات الكتاب:

معلوف، أمين.(1997). ليون الإفريقي. ترجمة: دمشقية، عفيف.(ط.3). لبنان- بيروت: دار الفارابي. عدد الصفحات: