الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع

الاستهلاكية المفرطة (Hyperconsumerism)

قد يبدو الاستهلاك لكثيرٍ من الناس بأنّه عنصرٌ محوريٌّ في دورة الاقتصاد القائم على العرض والطلب والحاجة، وهو كذلك في معظم الأحيان، إلا أنَّ التضخم المتزايد والمستمر منذ 100 عامٍ إلى جانب ارتفاع الإنتاج والطلب على الرغم من أزماتٍ اقتصاديةٍ مهولةٍ عدةٍ حلّت بالعالم؛ أولها أزمة بورصة الأسهم عام 1924 حتى جائحة COVID-19 اليوم، وعلى الرغم من أنَّ المنظماتِ الدولية تحذِِّر وإلى اليوم من أن الاستمرارَ في الاستهلاك بنسبه الحالية سيؤدي إلى نفاذ موارد الأرض في المستقبل غير البعيد (1,2)، إلا أن الثقافة الاستهلاكية في العالم اليوم لا تبدو مقبلةً على أيِّ تغييرٍ، وخصوصاً في دول العالم الأول. بعيدًا عن الاقتراحات الاقتصادية التي ينصح بعض الخبراء الاقتصاديين باتخاذها، يرى كثيرونَ أن للمشكلة بُعدًا اجتماعيًا لا يقلُّ أهميةً عن البُعد الاقتصادي لها، ولدراسة أيِّ تغييرٍ مُقترَحٍ، يجب تحليلُ المشكلة الاجتماعية، ودراسةُ أسبابها والعواملِ المؤثرة بها، والحدُّ من تأثيرها الجمعيِّ في المجتمع والدولة.

تُعرَّف «الاستهلاكية» أنها: "الاعتقادُ بأنّ السعادة الشخصية تعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على مستوى الاستهلاك الشخصي وخصوصًا للبضائع المادية"، وفي تعريف آخر يُشار إليها بأنها: "الاستهلاكُ الزائد دون الاكتراث للأضرار السلبية على المجتمع وعلى البيئة"، أما المجتمع الاستهلاكي فهو مجتمعٌ يُسخِّر فيه الناس كثيرًا من الوقت والجهد والموارد للإنفاق، انطلاقًا من الفكرة السائدة في المجتمعات الاستهلاكية بأنَّ الإنفاق هو شيءٌ (جيدٌ) وبأنّ الحياة تُصبح أفضل بزيادته، ويعدُّ كثيرٌ من الناس التسوّقَ نشاطًا ترفيهيًا، حتى أنَّهم على استعدادٍ للبقاء تحت الدَّيْن للحصول على أشياءَ تتعدى حدود الضرورة واللزوم، مثل سيارةٍ أحدثَ ومنزلٍ أكبرَ، وبالتأكيد فإنَّ هذه القرارات ترافقها زياداتٌ في الإنفاق، فعلى سبيل المثال: زيادةٌ كهذه في مساحة المسكن ترافقها زيادةٌ في الاستهلاك على البضائع لإشغالها، مثل المطابخ الواسعة وغرف الألعاب (3)، ووفقًا لعالم الاجتماع الفرنسي "جان بودريار - Jean Baudrillard 1929-2007" فإن الأشياء تجاوزت غائيَّتَها وأصبح لها معنى آخر لم يعد يستطيع الناس اللحاق به، مثل الفعالية والسرعة والحداثة وبذلك مثلًا: تجاوزت السيارة التقليدية غائيَّتَها الأصلية وهي توفير النقل؛ مما غيَّر في مضمون السلعة وغيَّر بذلك في سلوك مستهلكيها (4).

هناك العديد من العوامل التي تدفع المجتمعات إلى ترسيخ هذه الثقافة ودعمها، أهم هذه العوامل:

· إستراتيجيات (زيادة الربح) (Profit Maximization) الرأسمالية

العملية الأساسية التي تُنشِّط الاستهلاك هي طبيعة المنافسة على زيادة الربح في الاقتصاد الرأسمالي، فإحدى المزايا الجيدة للرأسمالية هي أنَّ المنافسة بين الشركات تَفرض ضغوطًا على الشركات للابتكار، ومع مرور الوقت؛ فإن العديد من هذه الابتكارات تزيد من الإنتاجية؛ وتعني زيادةُ الإنتاجية أن إنتاج كميةٍ مُحدَّدةٍ من الناتج يستغرق وقتًا أقل من العامل، ومن ثمَّ ينبغي اتخاذ قرارٍ ما بين تقليل ساعات العمل مما يؤدي لوقت فراغٍ أكبرَ للعمالة، أو زيادة الإنتاج وبيع المنتجات الفائضة، ولأنَّ ديناميكيات المنافسة السوقية التي تحكمها الأرباح تفرض ضغطًا قويًا على الاقتصادات الرأسمالية الغنية حتى تنمو في الناتج الإجمالي، فمن وجهة نظر الأرباح؛ إذا تضاعفت الإنتاجية في الاقتصاد الرأسمالي، أيُّ الخيارين أفضل: مضاعفة وقت الفراغ للعمالة والحفاظ على مستويات الاستهلاك ثابتةً، أم مضاعفة مستويات الإنتاج والاستهلاك مع الحفاظ على وقت الفراغ ثابتًا؟ لهذا السبب تحاول الشركات باستمرار زيادة إنتاجها ومبيعاتها، وتخصص مواردَ هائلة لهذه المهمة بالذات؛ أي في شكل إستراتيجيات الإعلان والتسويق (3).

· الإعلانات التسويقية

عندما يكون مستوى الاستهلاك ثابتًا تنبع الحاجة لخلق أسواق استهلاكٍ جديدةٍ، إما بالتوسع الجغرافي وإما باستقطاب من لا يهمه المُنتج أو حتى من لا يحتاج إليه على الإطلاق، وهنا تظهر أهمية الإعلانات في العمليات التسويقية، إذ تُنفَّذُ الآلاف من الحملات الإعلانية بملايين الدولارات لخلق رغباتٍ جديدةٍ للمستهلكين بما يتجاوز تلبية الاحتياجات الأساسية (الغذاء والماء والمأوى والصحة والأمن)، إذ يُشجَّعُ الأفراد على الاستهلاك باستغلال النزَعات والدوافع النفسية حول الهوية والوضع والسعادة (1)، ويشير المدافعون عن الإعلانات إلى أن الإعلان يوفر معلوماتٍ قيِّمةً للناس، لأنها تُوفر معلوماتٍ عن مزايا مُنتَجٍ واحد مقارنةً بالمنتجات الأخرى، ولكن الإعلانات تقوم بأكثرَ من مجرد نقل المعلومات؛ فهي تعرض وتُرسخ قيمًا معينةً، وتُؤكِّد باستمرارٍ العلاقةَ بين السعادة والاستهلاك، وبين النجاح في الحياة وشراء الأشياء، بين الجاذبية الجنسية وأشكالٍ معينةٍ من الاستهلاك (3)، وبالعودة إلى "جان بودريار"؛ يرى أن الإعلان بُعدٌ ضمن نمط الاستهلاك وليس منفصلاً عنه، أي أن الإعلان نفسَه سلعةٌ وموضوعٌ استهلاكيٌّ (4).

أصبح من الطبيعي مشاهدةُ إعلاناتٍ تستخدم صورًا رومنسيةً وأجسادًا رياضيةً أو نسائيةً عاريةً (وهو يسمّى تشييئًا هنا ) لتسويق منتجاتها حتى ولو كان المُنتَج بعيدًا البُعدَ كلَّه عن شكل الجسد، كإعلانات الكحول والعطور والشوكولا، أو استخدام صور السيارات الفارهة مع الوضع الاجتماعي المحترم لربط الصورتين بالاحترام الذي سيناله المستهلك من جرَّاء اقتناء سيارةٍ فارهةٍ (5)، تعتمد الإعلانات على استهداف الأركان الأربعة لـ «الاستهلاكية المفرطة» للمجتمعات وهي:

1. الطعام: مع النمو السريع لمطاعم الوجبات السريعة، يجد سكان المدن الكبيرة -وخاصةً الشباب- أنه من المريح تناول المواد الغذائية السريعة بدلًا عن الطبخ، وتظهر الاستهلاكية المفرطة عندما يعتقد المستهلِك أنه لا يستطيع العيش دونها.

2. التكنولوجيا: ساعدت أحدث الإصدارات التكنولوجية مثل الهواتف الذكية والتلفزيونات الضخمة وأحدث ألعاب الفيديو على تسهيل التواصل بين الناس وجعلهم أقرب لبعضهم بعضًا، ولكن في الوقت نفسه، تقدِّم وسائل الإعلام هذه الأدوات على أنها احتياجاتٌ أساسيةٌ لا يُمكنهم الحياة دونها، وبذلك أصبح الناس متابعين لأحدث إصدارات الأدوات التكنولوجية، وهذا بحد ذاته يُرسِّخ الاستهلاك المفرط.

3. النقل: في هذا المجال؛ يُمكن تتبُّع زيادة الإنفاق على وسائل النقل مثل السيارات باهظة الثمن بسبب الصورة المُتخيَّلة عن الوضع الاجتماعي المرافق لحيازتها.

4. الموضة: في عالم الأزياء والملابس، يشرع المصممون دائمًا في الترويج القوي لمنتجاتهم. ومع أنَّ الملابس هي حاجةٌ أساسيةٌ للحياة البشرية، إلا أنَّ تصميمات الأزياء الحديثة تجعلنا نعتقد أنَّه للوصول لحياةٍ أفضلَ، فإنه يجب الحصول دائمًا على أحدث تصميمات الأزياء، ويُعتبَرُ نجوم السينما والمشاهير سفراءَ هذه الأفكار لتبدو أكثر جاذبيةً للشباب، وهذا يؤدي إلى زيادة الإنفاق من خلال ارتداء الملابس باهظة الثمن (5).

· انخفاض مستوى الخدمات والمرافق العامة

يؤثر انخفاض مستوى الخدمات العامة بوضوحٍ في مستوى الاستهلاك الشخصي، ففي مجتمعٍ توجد فيه مرافقُ عامةٌ متميزةٌ، مثل المدارس الحكومية والمكتبات ووسائل النقل والمسابح والملاعب والحدائق العامة الجيدة، يمتلك الأفراد بديلًا متاحًا بسهولةٍ لأجل تلبية العديد من احتياجاتهم عوضًا عن الاستهلاك الخاص، ولكن تدهور مستوى السلع والخدمات العامة يُولِّد حلقة مُفرَغة؛ فكلما تجنب الأثرياء استخدام المرافق العامة، قلَّلوا دعمهم لتوفير تلك الخدمات، مما يؤدي إلى هرب المزيد من الناس إلى بدائلَ خاصةٍ وأكثرَ تكلفةً، تغذِّي هذه الحلقة النزعة الاستهلاكية والانشغال التام بالاستهلاك الخاص (3).

هناك العديد من الأسباب والعوامل التي قد تدفع بمجتمعٍ للتوجه نحو «استهلاكية المفرطة» من عواملَ ثقافيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ، وهناك مُناظراتٌ جادَّةٌ بين علماء الاقتصاد والباحثين في علم الاجتماع عن مستقبل «الاستهلاكية» ودورها في النظام الرأسمالي من جهة، وتأثيره السلبي في المجتمع والبيئة من جهةٍ أخرى، وهناك تياراتٌ ثقافيةٌ اليوم تتبنى مبدأ (البساطة الطوعية) في الحياة والإنفاق، وتدافع عن وتيرة حياةٍ أبطأَ وأبسطَ مع اهتمامٍ أقلَّ باستهلاك المواد (3)، بينما يطالب آخرون بتعاونٍ دوليٍّ للتركيز على فعالية المنتجات واستدامتها عوضًا عن تضخيم الإنتاج والاستهلاك (1).

المصادر:

1. Lister J. Consumerism. In: Pattberg P, Zelli F, ed. by. Encyclopedia of Global Environmental Politics and Governance [Internet]. Edward Elgar; 2021 [cited 12 January 2021]. p. 9-16. Available from: هنا

2. Goal 12: Responsible consumption and production [Internet]. UNDP. 2021 [cited 12 January 2021]. Available from: هنا

3. Wright EO, Rogers J. American society: how it really works 2nd ed. New York: W.W. Norton & Company; 2015. p. 120-142.

 . بودريار، جان. (2008). المصطنع والاصطناع. ترجمه: عبد الله، جوزيف. (ط1). بيروت: المنظمة العربية للترجمة. ص16-17

5. Kuhumba KS. Hyper-consumerism: Rethinking Virtue Ethics and Moral Solution in Contemporary Society. Journal of Sociology, Psychology and Anthropology in Practice [Internet]. 2018Aug;9(2). Available from: هنا