كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (السكينة): حينما يناقض عنوان العمل محتواه

قد يغيب الأدب المجري أو الهنغاري بتسمية أخرى عن الحضور ضمن معظم رفوف مكاتبنا، بل وربما تبقى مكانته الرفيعة مجهولة في كثير من الأحيان؛ فظروف البلد القاسية المتعلقة بسلسلة حروب عديدة وانحصار اللغة ضمن حدود دولة واحدة فقدت معظم أراضيها لتصبح ذات مساحة صغيرة؛ هذه الأمور كلها ساهمت إسهامًا كبيرًا في الوقوف في وجه اتخاذ الأدب المجري مساحة معتبرة ضمن الساحة الأوروبية والعالمية، ولكن؛ استطاعت مجموعة من الروايات المجرية النجاح في الوصول على الرغم من هذا، ولا سيما رواية (السكينة) والتي نالت عديدًا من الجوائز المجرية، بالإضافة إلى ترجمتها إلى أكثر من ثلاثين لغة بوصفها أفضل رواية مترجمة ضمن أمريكا عام 2001، وإحدى أكثر الروايات تداولًا في المجر إلى غاية اللحظة.

تناول الكاتب بارتيس في هذه الرواية ظروف حياته الخاصة في فترة الاحتلال السوفيتي للمجر، ولا سيما شق علاقته بوالدته التي كانت ذات شهرة فنية واسعة، بالإضافة إلى وصفه جوانب حياته المهنية كونه كاتبًا، لتتوضح بعدها عن طريق مجريات الأحداث معالمُ علاقته مع أسرته المتمثلة بأخته ووالدته ما بين مفترق الماضي والحاضر، وتضمنت الرواية مشاهد الحياة العامة في المجر في فترة الاحتلال وحتى خروج القوات السوفيتية منها؛ إذ اتخذت الأحداث ضمن الرواية منحى تصاعديًّا يبدأ بالاضطرابات التي حدثت مع الأخت والتي شكلت أنموذجًا مجريًّا يقوم على المعاناة التي لاقتها عديد من الشخصيات العلمية والأدبية والفنية في تلك الفترة، وصولًا إلى المشكلات المنزلية اليومية مع الأم التي عانت من أمراض نفسية وتأثيرات الشيخوخة.

وعرج بارتيس على مشكلاته التي حدثت مع حبيبته التي كانت قد عانت بدورها من ماضٍ سيئ تتخلله عديدٌ من الحوادث المروعة.

حتى ليتخيل لنا أنَّ "السكينة" أبعد صفة يمكن إسقاطها على محتوى الرواية؛ إذ إنَّ للمعاناة الشخصية للكاتب جانب رئيس من العمل الروائي، ولا سيما النفسي منه، بالإضافة إلى الضغوط التي رافقت مجريات نشر عمله الروائي، ويصل بعدها الشرح إلى أمر الصدمة التي تلقاها الكاتب من بعد حادثة وفاة والدته ليسقط في عقدة الذنب فاقدًا معاييره الأخلاقية واتزانه الخاص ضمن مفترق حاسم ضمن العمل، ويضاف إلى تلك الواقعة أمر البحث عن موطئ قدم الأخت.

وتنتهي الرواية بانتهاء علاقات الروائي جميعها والتي قد شكلت الأجزاء الرئيسة في حياته، لتذهب تأملاته كلها نحو أراضي المجر وسمائها.

"بالطبع أخاف، لكن ما دامت المدفأة القرميدية تشع الدفء على نحو جيد، سأبقى محتفظا بملامحي الإنسانية. وحتى لو أجلس في الخارج، في فناء منزل على ضفة بحيرة مثلا، في مكان ما، في جبال الكاربات، فلن أكتب شيء سوى شيء واحد لا غير، هو أن أمر واحد يملؤني بالدهشة:

السماء المتلألئة بالنجوم فوق رأسي. وهذا ما يزال قليلا جدا" معترفًا بموت ضميره الحي بعد استخدامه لعبارة الكاتب الشهير "إيمانويل كانت".

وبأسلوب القفز بين الزمن الحاضر والماضي (تقنية الاسترجاع أو الفلاش) وبصياغات تخلو من الركاكة أو الحشو، قدم بارتيش روايةً رصينة مع طغيان جانب الحديث مع النفس والتعبير عن العواطف البشرية واضطراباتها؛ إذ تُعد رواية (السكينة) إحدى الأعمال الأدبية التي ترتكز على تجارب المرء وعواطفه، واستطاع بارتيش عن طريقها تسخير الذاتية للتعبير عن رفضه للنظام الاشتراكي.

معلومات الكتاب:

بارتيش أتيلا، السكينة.نافع معلا، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ط1، 2019.