الرياضيات > الرياضيات

الرياضيات اللانهائية للحركة

"زينو"، فيلسوف يوناني قديم، معروف - لما يزيد على ألفي عام- بابتداع مفارقات رياضية عديدة، والتي قد تبدو منطقية رغم طريقة استنتاجها غير المألوفة أو حتى المتناقضة في بعض الأحيان. تجاوزت هذه المفارقات الأربعين، مربكًا بها العديد من الرياضيين، العلماء وحتى الفلاسفة لما يقارب الألف عام، ورغم كل ما ذكر، ألهمت أفكار زينو الفلاسفة والرياضيين لفهم طبيعة اللانهاية على نحو أكبر، واحدة من أهم هذه المفارقات، تدعى "مفارقة الحركة" والتي توصف  باختصار بأنها مفارقة التقسيم إلى اثنين.

ادعت سلحفاة كسولة بأنها قادرة على اجتياز "يوسين بولت" (أسرع رجل في التاريخ (2)) في سباق بينهما، طالما أنها ستسير قبله بمسافة معينة، وافق بولت عالمًا بأنه ما من شخص يمكنه هزيمته، سامحًا لها بالبدء بمسافة 100 متر قبله، جاريًا بسرعة 10م/ث والسلحفاة 2م/ث.

يستغرق بولت 10 ثوانٍ للوصول حيث بدأت السلحفاة، نفس الوقت تستغرقه السلحفاة لتتحرك 20 مترًا، مما يبقيه خلفها. تتلو ذلك ثانيتان، يقطع بولت 20 مترًا أخرى، والسلحفاة تسبقه بأربعة أمتار.

بعد 0.4 ثانية، يظن بولت أن باستطاعته اللحاق بالسلحفاة، لكنها تسبقه 0.8 مترًا، يحاول مرة أخرى بعد 0.08 ثانية، قريبًا جدًّا منها، تسبقه من جديد 0.16 مترًا.

تستمر الأمور على هذا المنوال، والمسافة بينهما لا تصل الصفر أبدًا، يفكر بولت مدركًا هذا. 

يبدو الأمر غاية في الغرابة، فالكل يعلم أن بولت سيتجاوز السلحفاة بكل سهولة، أي بعد 12.5 ثانية، لكن بمفارقة زينو ستبقى السلحفاة في المقدمة.

مثالٌ آخر علّه يزيد الأمور وضوحًا..

تود أنت وعائلتك قضاء العطلة في ساحل مشمس ذهبي، حيث النسيم العليل والأمواج المتلاحقة. تضع نصب عينيك صورة لاستلقائك على الشاطئ، متلذذًا بصوت البحر مسترخيًا أيما استرخاء. تبعد الآن عن هذا الشاطئ مسافة 200 مترٍ، وحتى تصل وجهتك يتوجب عليك أولًا قطع منتصف المسافة (أي 100 مترٍ)، تستغرق هذه الرحلة وقتًا معينًا، ساعتين ربما، وبمجرد وصولك إلى منتصف المسافة، سيتوجب عليك قطع منتصف ما تبقى (50 مترًا)، والتي ستأخذ منك وقتًا محددًا كذلك. تستمر الأمور بهذا الحال منصفًا ما تبقى مرة تلو الأخرى: 25 مترًا، 12.5 متر… إلخ.

وكما ترى، سيحدث هذا مرارًا وتكرارًا دون أن ينتهي، وكل مسافة مقطوعة قد استغرقت وقتًا معينًا، لكن المسافة ككل ستستمر بالتجزئة  حتى لو تبقى 0.00000000005 متر.

وهنا، نطرح سؤالًا: كم استغرقت الرحلة حتى تصل إلى الساحل المنشود؟ الأمر بسيط، عليك جمع كل الأزمنة المستغرقة للمسافات المقطوعة، لكنَّ عائقًا سيواجهك جاعلًا، الأمر شبه مستحيل!

فوفق مفارقة زينو، نرى قابلية تقسيم الوقت بشكل لانهائي (3)، أي سنجمع فترات زمنية غير منتهية لمسافات تستمر بالتجزئة مهما تناهت صغرًا، لذا، فإن انتقالك من مكانك الحالي إلى أي مكان آخر سيستغرق وقتًا لا نهائيًّا، وبعبارة أخرى، كل حركة مستحيلة!

نتيجة غير معقولة، أليس كذلك؟ فأنت وأنا نعلم جيدًا بأنه من السهولة بمكان أن يقف أحدنا على قدميه متوجهًا إلى المطبخ بغية إعداد كوب لذيذ من القهوة، منتهين إلى وجود خطب ما في منطق المفارقة هذه.

إن عدنا إلى الرحلة التي افترضنا القيام بها في البداية، ربما استطعنا تحديد هذا الخلل، فالنصف الأول من الرحلة سيستغرق ساعتين، الجزء الثاني ساعة واحدة، والجزء الثالث سيستغرق نصف ساعة وهكذا دواليك. وبجمع هذه الفترات نحصل على المتسلسلة الآتية:

هل سينتهي المطاف بهذه العملية إلى المالانهاية؟ أم من الممكن جمع هذه الأرقام غير المنتهية لينتج لدينا رقم محدد؟ بحسب زينو، فإن جمع عدد غير منتهٍ من الأرقام المحددة على الطرف الأيسر من المعادلة، لن ينتج رقمًا محددًا، لكن الرياضيين أثبتوا النقيض تمامًا، وفيما يأتي مثال أكثر إيضاحًا.

لدينا مربع طوله متر وعرضه كذلك، نجد المساحة حسب قانون (الطول×العرض)، أي 1 م2.

سننصف هذا المربع، ونجمع نصفيه فنحصل على 1 لأن هذا التنصيف لم يغير من طبيعة المربع شيئًا. وإن كررنا هذا التقسيم عددًا لا نهائيًّا من المرات، يبقى المجموع واحدًا.

ورجوعًا إلى مثالنا الأول، ستصل إلى وجهتك بعد فترة محددة من الزمن، مستمتعًا بالعطلة دون "مفارقة" تؤرق مضجعك. 

رغم أن مفارقات زينو تتحدى فهمنا للمكان والزمان، لكنها تركت صدى مدهشًا في بعض المفاهيم الحديثة في العلوم (3). 

 تفاصيل الرياضيات هذه، تضفى رونقًا لا يمكن إغفاله أو الانتقاص منه، لكل مجال تلوذ به، مبهرة جاذبة تعلمًا وتعليمًا. 

المصادر:

1- The Motion Paradox: The Infinite Mathematics of Motion [Internet]. Medium 2020 [cited 5 February 2020]. Available from: هنا

2- Usian ST.Leo Bolt Biography [Internet]. Usian Bolt 2012 [cited 18 July 2012]. Available from: هنا

3- Mathematical mysteries: Zeno's Paradoxes[Internet]. Plus Magazine 2000 [cited 1 December 2000]. Available from: هنا