الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة الغربية

الفلسفة القارية Continental philosophy

الفلسفة القارية هي اسم فترة امتدت مئتي سنة من تاريخ الفلسفة، وكانت بدايتها الأولى بنشر الفلسفة النقدية لكانط في ثمانينيات القرن الثامن عشر، الأمر الذي حفَّز ظهور الحركات الفلسفية الرئيسية؛ كالمثالية والرومانسية الألمانية، ونقد الميتافيزيقا، والفلسفة الوجودية والفينومينولوجيا الألمانية والهيغلية والماركسية ومدرسة فرانكفورت والبنيوية، والنسوية وما بعد الحداثة (1).

وجرى التمييز بين نوعين من الفلسفة: الفلسفة القارية الأوروبية مقابل الفلسفة التحليلية الإنجليزية Analytic Philosophy في سبعينيات القرن العشرين في أمريكا؛ إذ حل مصطلح الفلسفة القارية محل المصطلحات الأقدم "كالفينومينولوجيا" أو "الفينومينولوجيا والفلسفة الوجودية"، وهي فلسفات ظهرت في أوروبا الغربية، وتحديدًا في ألمانيا وفرنسا (1).

وظهرت المثالية الألمانية بوصفها ردًّا على النظرة الارتيابية والمادية والتجريبية المضادة للميتافيزيقا التي جاء بها عصر التنوير، وهي نزعات أثارها الفلاسفة البريطانيون تحديدًا، إذ رأى جورج باركلي (George Berkeley 1685-1753) أن الوجود يعني أن تكون موضوعًا مدرَكًا أو مدرِكًا، فما هو حقيقي إما أن يكون فكرةً وإما أن يكون عقلًا؛ أما ديفيد هيوم (David Hume1711-1776) فقد رأى أن ارتباط  المسبب والنتيجة لا يمكن تفسيره تفسيرًا عقلانيًّا، ولكن يمكن تفسيره تفسيرًا سيكولوجيًّا فقط؛ إذ إنه ناتج عن العادة والارتباط بين الأفكار فقط، وبذلك يكون هيوم قد قوَّض أساس المعرفة العلمية التي تُبنى على الارتباط بين النتائج والمسببات. 

 تشكيك الفيلسوفين في وجود حقائق متمايزة عن الأفكار والإدراكات التي نختبرها، والتشكيك في قدرة العقل البشري على معرفة الطبيعة الجوهرية للحقيقة أدى إلى استجابة إيمانويل كانط (1804-1724 Immanuel Kant) بمشروع الفلسفة النقدية التي عنيت بالأسئلة الفلسفية الأكثر عمومية؛ كالسؤال عن معنى الوجود الإنساني وعن طبيعة الواقع؛ إذ تناول في كتاب (نقد العقل الخالص) السؤال الخاص بما يستطيع المرء معرفته؛ أما ما يجب على المرء معرفته فقد كان موضع عناية كتاب (نقد العقل العملي)، وفي كتاب (نقد الحكم) تناول ما يمكن للمرء أن يأمله. فالهدف من فلسفة كانط والمثالية الألمانية عمومًا هو إعادة الثقة في العقل بوصفه أداة تمكِّن البشر من فهم الطبيعة (2).

تتميز الفلسفة القارية بسعيها إلى توليد طرائق جديدة للوجود عبر تجديد الفكر؛ الأمر الذي يجعلها تخالف الآراء السائدة عوضًا عن تبريرها؛ فليس الفكر عملًا مجردًا؛ بل إنه يُعنى بمواقف محددة، ويحدث التفكير عبر الفعل؛ بمعنى أن حدوث التفكير لديك يعني أن التفكير ليس قدرة طبيعية بل إنه يحدث تحت ضغط الخبرات الشديدة، ولأن التفكير يحدث في الخبرة تهتم الفلسفة القارية بخبرات من قبيل: خبرة الموت والجنون والعمى، وهذه الخبرات كافة تتعلق بحالة الضياع في الزمن، وهكذا تُعرِّف الفلسفة القارية التفكير بأنه خبرات ملموسة تكوّن حدثًا يُخترع ضمنه عمل أو مفهوم جديد أو حتى طريقة جديدة للحياة (3).

توظف الفلسفة القارية الخبرات الناشئة تحت الضغط والأزمات بوصفها وسائل لنقد الحاضر؛ وذلك لتعزيز وعي تأملي للحاضر على أنه في أزمة، سواء أكان يُعبَّر عن ذلك؛ كأزمة إيمان في عالم برجوازي متحفِّظ عند سُرين كيركجارد (Søren Kierkegaard 1813–1855)، أو أزمة العلوم الأوروبية عند  ادموند هوسرل (Edmund Husserl 1859–1939)، أو أزمة العلوم الإنسانية عند ميشيل فوكو  ( Michel Foucault 1926–1984) أو أيًّا كان التعبير عنها، وهكذا تؤدِّي الفلسفة بوصفها تأمُّلًا ثاقبًا حيال التاريخ والثقافة والمجتمع إلى إيقاظ الوعي النقدي؛ فإن مسؤولية الفيلسوف بحسب هوسرل هي إنتاج الأزمة مما يؤدي إلى إرباك التراكم البطيء للرواسب القامعة للتقليد من أجل نقد تاريخي منشط، يكون أفقه عالمًا متحررًا (1).

من ناحية أخرى، تُركز الفلسفة القارية على الطابع التاريخي الجوهري للفلسفة بوصفها ممارسة، والطبيعة التاريخية الجوهرية للفيلسوف الذي يؤدي هذه الممارسة، وهو ما يُعرَف عادةً "بالتاريخانية"(historicism) الأمر الذي يترتَّب عليه أنه لم يَعُدْ من الممكن -على نحو مشروع- إحالة المسائل الفلسفية العميقة عن معنى وقيمة الحياة البشرية إلى الموضوعات التقليدية للميتافيزيقا التأملية وهي الإله والحرية والخلود، وهي المواضيع التي رآها كانط خالية من المعنى على المستوى المعرفي؛ على الرغم من أنه يمكن الدفاع عنها أخلاقيًّا. 

عوضًا عن ذلك؛ يعني إدراك التاريخانية الجوهرية للفلسفة والفلاسفة بأمرين:

الأول هو التناهي: ويعني عدم وجود نقطة مرجعية خارج التجربة الإنسانية كوجود الإله مثلًا، يمكن عن طريقها وصف خبرتنا والحكم عليها، وحتى إذا كانت موجودة، لا يمكننا الحكم عليها أو معرفة شيء عنها. 

الأمر الثاني: هو الطابع العارض لظروف صناعة وإعادة صناعة تجاربنا (1).

لذا تشكل نصوص الفلسفة القارية نوعًا من الأرشيف الوثائقي للمشكلات الفلسفية، مع وجود علاقة واضحة بينها وسياقها، وتتميز بوعي قوي بالتاريخ؛ كأعمال هيغل وماركس ونيتشه؛ إذ لا يُسمَح بقراءتها دون الإشارة إلى سياقها، وثمة سمة مشتركة بين كثير من الفلاسفة في التقليد القاري؛ وهي المطالَبة بتغيير الأمور.

 إذا كانت التجربةُ الإنسانية صنعًا عارضًا؛ فيمكن إعادة صياغتها بطرائق أخرى، وهذه هي المطالبة بتغيير ممارسة الفلسفة أو الفن أو الشعر أو التفكير؛ فتكون قادرة على التعامل مع الحاضر وانتقاده، وفي نهاية المطاف تحريره. 

وهكذا، فإن المطالبة التي تسري في جزء كبير من الفكر الفلسفي القاري، والتي تستمر في إلهام فلاسفة مثل هابرماس وَدريدا؛ هي أن يحرر البشر أنفسهم من ظروفهم الحالية، وهي الظروف التي لا تؤدي إلى الحرية (1).

المصادر:

1-  كرتشلي، سايمون. (2016). الفلسفة القارية: مقدمة قصيرة جداً. ترجمة: شكل، أحمد. (ط1). القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. ص 24، 46، 76-77، 64-68.

2- Encyclopedia britannica [Internet]. Encyclopedia britannica, inc; 2018. Continental philosophy;[2018 april 06; cited 2020 april 2] available from: هنا

3-  Lawlorm, Leonard. Early twentieth century continental philosophy. Indiana university press: Bloomington and indianapolis;2012. 297 p.1-2