كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية الانتباه: يوميات رجل قرر أن يكون منتبهًا

رواية تستحق الانتباه للكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا (Alberto Moravia 1907-1990) وهو من أشهر كُتَّاب إيطاليا في القرن العشرين، والذي تتميز أعماله بالبراعة والأهمية لخوضها في أعماق النفس البشرية، ولطرحها مواضيع حساسة.

وقد تُرجِمت معظم أعماله إلى عدة لغات عالمية، وحُوِّل عديدٌ من رواياته إلى أفلام سينمائية. (١)

إنَّ رواية (الانتباه) ليست قصة وحبكة أدبية ببساطة، وإنَّما هي نوع من التحليل الأدبي، ورحلة في بناء هيكل الرواية،  وتحليل لعلاقة الروائي بشخصياته، فيقدم مورافيا كتابه هذا بصفته طريقةً منه لفهم صلة الرواية بالواقع، وبصفته نوعًا من الضمير اليقظ في الكتابة، لتسير معه بخطوات هادئة بعيدًا عن دراما الأحداث، ولكن؛ بعمقٍ فذٍّ عبقري للدواخل النفسية لكاتب الرواية نفسه ولعلاقاته بشخصياته. 

وتدور أحداث الرواية في يوميات فرانشيسكو، وهو رجل من روما يعمل صحفيًّا؛ إذ تبدأ الرواية بتمهيد يبرر فيه فرانشيسكو سبب كتابة يومياته "لكي تكون فيما بعد أساسًا لرواية؛ أي مجموعة مواد يمكن استخدامها فيما بعد في تحرير رواية "، فيقص علينا فرانشيسكو قصة حبه لزوجته (كورا) التي كانت تعمل خياطةً في ورشة صغيرة تحاول عن طريقها إعالة نفسها وابنتها -التي أنجبتها من جندي ألماني- والتي تُدعى (بابا)، وتنتهي قصة الحب بالزواج ويعيش فرانشيسكو في فترة من الاستقرار يحاول فيها أن يحقق طموحه القديم في أن يكتب رواية، فيبدأ بكتابة رواية عن قصة حبه لكورا من لقائه الأول بها حتى القران، وهنا يحدث أمر طارئ غير متوقع يصفه ببساطة "إذ لم أعد أحب كورا"، وهذا ما يجعله يعيد النظر في مشروع الرواية، بل وفي حبه لكورا ويجده فعلًا غير أصيل في حد ذاته؛ إذ إنَّه لم يحبها حقًّا، وإنَّما أحب كونها ابنة الشعب الفقيرة التي تمثل له الأصالة التي كان يبحث عنها وهو ابن الطبقة البرجوازية، وهذا ما يجعله يمزق صفحات الرواية ويتخلص منها، بل ويهجر زوجته ويتجاهل وجودها هي وابنتها ويعيش كنزيل داخل المنزل في غرفته الخاصة، ويدخل في سلسلة علاقات عابرة مع فتيات يزرنه في المنزل، ثم يشغل نفسه في أسفاره المتلاحقة التي تتيحها له مهنته بصفته صحفيًّا، ويتعامل مع كل ما يخص عائلته بحالة متوغلة من "اللاانتباه". 

شيء واحد لم يتغير في حياته وهو تعلقه بالأدب وبوجه خاص طموحه إلى أن يكتب ذات يوم رواية، ولكنَّه في هذه المرة يبحث عن الأصالة في كتابة الرواية بعيدًا عن الدراما؛ أي رواية يتابع فيها سير الحياة اليومية دون تدخل من حيث أن أي فعل هو حدث غير أصيل، وهكذا يقرر أن يبدأ في كتابة يومياته في أثناء فترة إقامته في روما إلى حين سفره الآتي ليستخلص منها روايته الجديدة المنتظرة؛ الرواية التي تتميز بالأصالة التامة. 

فيقرر حين عودته إلى البيت أنَّ كتابة اليوميات تستلزم منه أن ينتقل من حالة "اللاانتباه" الذي كان يخدر نفسه بها إلى حالة من "الانتباه" لكل مجريات حياته بعد أن تجاهلها عشرة سنوات، وهنا يكتشف أنَّ زوجته كورا تعمل قوادةً وتدير منزلًا للمواعيد، وأنَّ طفلة زوجته بابا -ابنة الحرام كما كان يصفها في الماضي- أصبحت شابة في العشرين من العمر، فيقع في غرامها. 

إنَّ الرواية عرضٌ ليوميات هذا الصحفي الذي يحاول أن يفهم حقيقة مشاعره تجاه كورا سابقًا وبابا حاليًا في محاكمة نفسية ومواجهة دقيقة لكل أبعاد تصرفاته وأفكاره ومشاعره حتى أحلامه وخيالاته؛ إذ نجده في كثير من أجزاء يومياته يتخيل مشاهد وأحداثًا لم تقع في الواقع، ولكنَّه يعود ليخبرنا بالأشياء التي حدثت فعلًا والأشياء المتخيلة، ويدفعنا معه إلى إدراك الدافع وراء تلك الخيالات والافتعالات وما تحمله من دلالات وتطويل وتطوير للحقيقة التي قد تكون مخفية. 

وتتميز الرواية بدقة الوصف، وتناقش مفاهيم شتى وعلى رأسها مفهوم "الأصالة"، فعقدة الكاتب في روايته هي هروبه من "لاأصالة" الأفعال وتقصي الأصالة التي تتمثل -حسب رأيه-  في موقف متأمل دون تدخل في مجريات الأحداث، وهناك مناقشة لمفهوم الفساد وفكرة التكفير عن الذنب أيضًا، ويطرح عن طريقها مقاربة مع مأساة أوديب الذي يتوصل إلى معرفة الحقيقة بعد سنوات عديدة من السهو واللامبالاة فيفقأ عينه، ومن قصة حبه لبابا وما يدور بينهما من أحاديث يكتشف تأثير مهنة كورا على ابنتها، وكيف حاولت بيع جسد بابا وهي مراهقة لا تتجاوز الرابعة عشر طارحًا أفكارًا عميقة تدور حول الإحساس بالشيئية والدخول في العدم، وتجربة الموت النفسي والولادة من جديد، ويطرح موضوع الأدب الجنسي وتأثيره في بناء الرواية أيضًا، والمحاكمة الصعبة لموضوع الحب السفاح من حيث أنَّ بابا بمثابة ابنة له، وهذا كله في سياق منسجم ذكي البناء يعالج تطورًّا نفسيًّا أكثر منه أحداثًا ووقائع. 

فكيف ستكون الصورة الأخيرة للرواية التي ينوي فرانشسكو كتابتها يا ترى؟

في الخاتمة، ستجد الجواب وستدرك أنَّك كنت قد شاركت فرانشيسكو فعلًا في كتابة الرواية، وسيبقى العنوان "الانتباه" يدعوك إلى الانتباه وأنت تقرأها، ويدعوك إلى الانتباه إلى أحداث حياتك الخاصة أيضًا.

معلومات الكتاب:

مورافيا، ألبرتو. الانتباه. ترجمة: طرابيشي، جورج. (ط.الأولى). بيروت-بغداد: منشورات الجمل. عدد الصفحات: ٤٠٥

المصدر: هنا;