الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد

دروس من التاريخ الاقتصادي للتعامل مع COVID-19

مع تسارع الانتشار العالمي لفيروس كورونا (COVID-19)؛ نجد أنَّ استجابة الأسواق المالية العالمية تدعو للتشاؤم، إذ شهدت انخفاضًا لم تشهده منذ عام 2008. ولا يزال الفهم الشامل للأثر الاقتصادي المستقبلي المحتمل للفيروس أمرًا صعبًا، إذ إنَّ الفيروس ينتشر على نطاق غير مسبوق في العصر الحديث (1). وهنا سؤالٌ يطرح نفسه: هل عانى العالم أوبئة مفاجئة وخارجة عن السيطرة كالتي نعيشها اليوم؟ نعم، إن تفشي الأمراض عالميًّا ليس بالأمر الجديد، فقد شهد التاريخ البشري العديد من الجائحات، ومن أبرزها الإنفلونزا الإسبانية والموت الأسود، كيف تتقارب هذه الأوبئة مع ما نمر به اليوم؟ وما أبرز الدروس المستقاة منها لصانعي السياسات الاقتصادية اليوم؟

أولاً: الإنفلونزا الأسبانية (The Spanish Flu): 

 انتشرت عام 1918 الجائحة المعروفة باسم الإنفلونزا الإسبانية، وكانت آخر جائحة عالمية حقيقية قبل التي نشهدها اليوم، وتفاقمت بقوة في عصر لم توجد فيه هيئاتُ الصحة العامة الدولية مثل منظمة الصحة العالمية WHO. وكان الأمر الأسوأ آنذاك هو إصابة قرابة ثلث سكان العالم بهذه العدوى التنفسية الحادة (1)، إذ أشارت التقديرات المتحفظة إلى أنَّ عدد الوفَيات نتيجة الإنفلونزا الإسبانية بلغ 20 مليونًا، ولكنه فعليًّا قد يكون أكثر من ذلك بكثير ليصل إلى حدود 50 مليون شخص. ولا يقارن هذا العدد حتى مع وفيات الحرب العالمية الأولى، التي قتل فيها تسعة ملايين شخص في جميع المعارك (1). وتشير الدراسات إلى كون قرابة 2-3 ٪ من المصابين بالفيروس انتهى بهم المطاف موتى، واستمر الفيروس بالانتشار على عدة موجات لسنتين ووقعت معظم الوفيات في غضون أول أسبوع من كل تفشٍّ. وكان آخر تفشٍّ للمرض في عام 1919، وذلك بعد عام من تعرّف المرض أول مرة (1). 

تعددت الأسباب التي أدت إلى تفاقم هذه الجائحة وكان من أهمها انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقد سبّبَ تسريح جيوش بأكملها وعودتها الى المنزل تفشيَ الفيروس بين الناس وعلى طول طرق النقل الرئيسية (1). إضافة إلى أنَّ كثيرًا من سكان العالم كانوا قد استُنفدوا فعلًا من ضغط الحرب مما جعلهم عرضة للمرض، وبخاصة في ألمانيا. وما زاد الطين بلة أنَّ المسؤولين المحليين لم يكونوا شفافين بشأن شدة الوباء، مما كلفهم المصداقية وانتشار الخوف والذعر (4)، أضف إلى ذلك؛ ضعف التنسيق السياسي وتشديد الرقابة على وسائل الإعلام. إذ كان الشغل الشاغل للحكومات آنذاك هو التخطيط للسلام (1). وفي ذلك الوقت لم تكن هناك لقاحات أو اختبارات مخبرية للكشف عن الفيروس، ما دعى المسؤولين للاعتماد على "التدخلات غير الدوائية" مثل الحجر الصحي والعزل والقيود المفروضة على التجمعات العامة (4)، وساعدت جميع العوامل السابقة على زيادة حدة انتشار الإنفلونزا الإسبانية.

وإضافةً إلى الكارثة البشرية وعواقب الجائحة على الحياة الاجتماعية والصحية؛ كان هنالك عواقب مباشرة وطويلة الأمد على الاقتصاد، إذ نشأت هذه العواقب من الذعر المحيط بانتشار الإنفلونزا، إذ أغلقت المدن الكبيرة مثل نيويورك وفيلادلفيا، الأمر الذي كان من المفترض أن يكون مؤقتًا، لكنَّ سكانهما ما لبثوا أن أصبحوا طريحي الفراش كما هي الحال في إيطاليا الآن، وتزامن ذلك مع إغلاق الشركات التي تضرّرت الصغيرةُ والمتوسطةُ منها أكثر من غيرها، وقد أُلغيَت الأحداث الرياضية وحُظِرت التجمعات الخاصة -متضمّنةً الجنازات- للحد من انتشار المرض (1)، ونتج عن الوباء نقصُ العمالة وزيادةُ الأجور في المدن التي شهدت ارتفاعًا في نسب الوفيات، ولا يتفق المؤرخون الاقتصاديون على رقم معين لحجم خسائر هذه الجائحة في الناتج المحلي الإجمالي؛ كونه من الصعب الفصل بين آثار الإنفلونزا الإسبانية والحرب العالمية الأولى (1). وأظهرت الأبحاث أنَّ المواليد في تلك الفترة حصَّلوا مستوى اجتماعيًّا واقتصاديًّا أقل من المولودين قبل الجائحة أو بعدها (1). وكانت الجائحة مصحوبة بانخفاض كبير على الأجل القصير في معدلات الفوائد  الحقيقة للأسهم والسندات الحكومية القصيرة الأجل، مدفوعةً بالانخفاضات في النشاط الاقتصادي وارتفاع التضخم (5)، وباختصار؛ يمكن استخلاص بعض الدروس المستفادة من هذه الجائحة، ألا وهي: 

 أولاً؛ يجب أن تتركز استجابة الصحة العامة لانتشار المرض على الاحتواء، ومن ثمَّ منعُ كثير من الخسائر سواءً أكانت بشريةً أم اقتصادية، إذ إن سبب الوفيات في جائحة عام 1918 هو كثرة الناس الملتقطين للمرض من أول انتشار، ثمَّ إنَّ لسرعة الانتشار أثرٌ بالغ على الوضع الاقتصادي، وقد تعرّضَ معظم الناس آنذاك للمرض لأن صناع القرار السياسي فشلوا في وقف انتشار الفيروس (1).

ثانياً؛ المعلومات الجيدة هي مفتاح السيطرة على المرض، فأكثر ما قد يضر هو التعتيم، وما هو أسوأ حملاتُ التضليل الإعلامي. ويمكننا أن نرى بالفعل العواقب الرهيبة لهذه السياسات في بعض الدول الآن (1). 

ثالثاً؛ يجب على الدول التحضير لمواجه أسوأ سيناريو، وبهذا يجبُ الاستعداد للعواقب الاقتصادية والصحية للفيروس والعمل على تقليل الخسائر، إذ يشكل هذا الوباء صدمةً للطلب والعرض (1).

 ثانياً: الموت الأسود (The Black Death):

انتشر الموت الأسود (الطاعون الأسود) بين عامي 1347-1351، وحدث نتيجة جلب تجار جنوى الطاعون إلى أوروبا بعد الهروب من الحصار الذي استخدم فيه جنرال Mongol الجثثَ كسلاح بيولوجيّ. وبلغ عدد الوفيات نتيجة هذا الوباء 200 مليون شخص في أنحاء العالم. وأسهم هذا الوباء -بحسب Costas Milas الأستاذ في جامعة ليفربول- بانخفاض إجمالي الناتج المحلي التراكمي بنسبة 29٪ وزيادة أسعار الذهب بنسبة 8٪ بين 1348 و1351. ونتيجة لندرة العمالة؛ ارتفعت أجور المزارعين في إنكلترا (تراكميًّا) بنسبة 116.2٪، في حين ارتفعت أجور حرفيّي البناء بنسبة 42.6٪ "فقط"، وهو أمر منطقي إذا عددنا أنَّ تجنب حدوث خلل في الإنتاج الزراعي كان يمثل أولوية. وفي الوقت نفسه؛ أدى الهروب من المدن إلى ضغط هبوطي على الإيجارات. 

وإذا كرر التاريخ نفسه فمن المحتمل أننا سوف نشهد انكماشًا اقتصاديًّا عميقًا (3)، ثم إنَّ الضرر الاقتصادي قد بدأ بالفعل، ففي الصين انخفض الاستثمار في الأصول الثابتة بنسبة 42.5 % في الربع الأول من عام  2020، ومبيعات المتاجر بنسبة 20.5%، وقيمة الصادرات بنسبة 15.9%، والإنتاج الصناعي بما نسبته 13.5%، والإنتاج الخدمي بنسبة 13% (7)؛ الأمر الذي يستدعي وجود سياسات اقتصادية لمواجهة هذا الانخفاض. 

ففي حين تتخذ الحكومات في جميع أنحاء العالم خطواتٍ جذريةً لمحاولة احتواء جائحة الفيروس التاجي (4)؛ يشهد النشاط الاقتصادي انخفاضًا سريعًا غير مسبوق، وبحسب Barry Eichengreen سيؤدي ذلك إلى انخفاض الإنفاق بنسبة 30% في الربع الثاني من 2020 (2)، ثم إنَّ العمالة المفقودة نتيجة الحجر لها آثار اقتصادية خطيرة (1).

تمثل جائحة الإنفلونزا الإسبانية في الفترة 1918-1920 محاكاةً لأسوأ سيناريو يمكن أن يبلغه فيروس COVID-19، وفي حال حدث هذا السيناريو؛ سيبلغ عدد الوفيات 150 مليون مع الانخفاض في الناتج المحلي ومعدل الاستهلاك (5)، وبالمقابل فإنَّ احتمال الوصول إلى مستوى هذه الجائحة قليلٌ مع التقدم المُحرَز في الرعاية الصحية والتدابير التي اتُّخذت لاحتواء المرض (5)، الأمر الذي لا ينفي وجوب تطبيق سياسات مالية جديدة وجدية لتعويض الصدمة الاقتصادية الانكماشية وتقديم الدعم للأطراف الأكثر تأثرًا بـ COVID-19، ومن أهم هذه السياسات: تخفيض ضريبة الرواتب والأجور، ومنح الائتمان المنخفض الفائدة والإعفاءات الضريبية للشركات المتضررة (6)، إضافة إلى ضرورة توجيه الجهود الآن نحو الأفراد العاملين في وظائف غير مستقرة وذات أجور متدنية، خصوصًا في ظل ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية والإجازات المرضية. الأمر الذي قد يجبر الموظفين في القطاع الخاص على الذهاب إلى العمل حتى لو ما زالوا يحملون الفيروس أو يشكون في ذلك (1)، وجل ما نرجوه أن يُحتوَى هذا الفيروس وآثاره الاقتصادية التي من المتوقع أن تكون خطيرة وطويلة الأمد.

المصادر:

1-[Internet] Chris Colvin, Eoin McLaughlin.  Coronavirus and Spanish flu: economic lessons to learn from the last truly global pandemic [cited 11 March 2020] . Available from: هنا

2-[Internet] John Cassidy.  An Economic-History Lesson for Dealing with the Coronavirus [cited 18 March 2020] . Available from: هنا

3-[Internet] Costas Milas.  COVID-19 and economic lessons from previous pandemics [cited 23 March 2020] . Available from: هنا

4-[Internet] Elizabeth Schulzei.  What the 1918 influenza pandemic can teach governments about coronavirus [cited18 March 2020] . Available from: هنا

5-  Barro, R. J., Ursúa, J. F., & Weng, J. (2020). The coronavirus and the great influenza pandemic: Lessons from the “spanish flu” for the coronavirus’s potential effects on mortality and economic activity (No. w26866). National Bureau of Economic Research. Available at: هنا

6- [Internet] Ethan Ilzetzki.  Covid-19 Europe's nations and regions Macroeconomic policy [cited 28 March 2020] . Available from:  هنا

7- [Internet].  National Bureau of Statistics of China.  Available from: هنا access at: 4/4/2020