الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

المعرفة العلمية ومقوماتها - الجزء الأول

ما هي أشكال المعرفة؟ ما هي الأسس التي يتم تصنيف المعارف بموجبها؟ متى تكون النظرية علميّة وكيف يتم إثباتها؟ كيف نعرف؟ كيف نعرف أننا نعرف؟ كيف نستوثق من صحة معارفنا؟ نماذج عن النظريات العلمية و نقائضها... هذه المحاور ستكون موضوع مقالنا، نرجو لكم الفائدة و نسعد بسماع انتقاداتكم البنّاءة .

أولاً - مفاهيم عامّة :

المنهج: مجموعة من الطرائق التي يستخدمها الباحث في معالجة مشكلة ما للوصول الى النتائج، كما يطلق مصطلح المنهج على الآلية التي يتبعها الإنسان العاقل لفهم موضوعات العالم الخارجي.

الذات : أحد طرفي العلاقة في المعرفة وتطلق على الإنسان العاقل المفكّر المشتمل على الوعي.

الموضوع : الطرف الثاني في المعرفة، ويطلق على كل موجودات العالم المادي والمعقول الذي تسعى الذات للإحاطة به ومعرفته والوصول لحقيقته وجوهره.

مثال: الكشف عن جوهر المادة هو محاولة الكشف عن العناصر والعلاقات بين هذه العناصر التي تتشكل منها المادة .. فالذات هي الإنسان الذي يقوم بدراسة المادة، أما الموضوع فهو المادة نفسها ..

الإشكالية الأساسية في المعرفة: تقوم نظرية المعرفة على دراسة العلاقة بين الذات والموضوع، وتطرح التساؤلات حول موضوعيّة وحقيقة وواقعية معرفتنا بالأشياء المحيطة بنا، و تقوم بوظيفة نقديّة لمبادئ العلوم و المناهج للوصول لنتائج أكثر موضوعية و أكثر قابلية للتعميم ... مثال : دراسة الميكروبات أو الأشعة تحت الحمراء تتم عن طريق استخدام أدوات معينة ولا يستطيع الإنسان رصدها بالحواس بشكل مباشر، بالتالي فالمنهج في دراستها يختلف عن منهج دراسة التفاعل الكيميائي مثلاً، ولكن كلا المنهجين لا يعطي سوى نتائج موضوعية تجعلنا على دراية وفهم بهذه الموضوعات...

ما هو العلم الذي يتناول المعرفة العلمية موضوعاً له؟

من حيث نقد المبادئ ورصد النتائج فهو من اختصاص فلسفة العلم (الأبستمولوجيا) أما نقد المناهج العلمية فهو من اختصاص (الميتودولوجيا) أي علم المناهج...

مثال: تدرس الأبستمولوجيا منطلقات اتجاه معيّن لمدرسة في علم النفس، كمدرسة التحليل النفسي، فتقوم بوظيفة نقديّة لهذا الاتجاه من حيث الدقّة والموضوعيّة في نتائجه، بينما تقوم الميتودولوجيا بدراسة المنهج الذي اتبعته هذه المدرسة للوصول الى النتائج...

ثانياً - ما هي أدوات المعرفة؟ أو بعبارة أبسط: كيف نحصل على معارفنا بالأشياء؟

إنَّ كلَّ معارفنا تنجم عن إحدى الوسائل التالية (الحس، العقل، التجربة).

1- الحس : يمتلك الإنسان خمس حواس تلعب دور الوسيط بين الدماغ والمؤثرات الخارجيّة، وهذه الآلية هي آلية بيولوجية محض، لذلك يختص بدراستها علم الأعصاب، فالحواس السليمة تعطي إدراكاً ومعرفة موضوعية بالأشياء بينما الحواس المشوّهة تعطي إدراكاً مشوّهاً ومعارف زائفة أو ناقصة. مثال : الشخص المصاب بعمى الألوان لا يمتلك القدرة سوى على تمييز لونين هما الأبيض والأسود بينما الإنسان العادي يمتلك معرفة بألوان الطيف وتدرجاتها الواقعة بين اللونين الأحمر والبنفسجي ... أمّا الإنسان الأعمى فليس لديه خبرة بصرية سوى باللون الأسود وبالتالي لا يمكن نقل خبرة باقي الألوان له بأي حال من الأحوال، فمعرفته البصرية ستكون ناقصة ومحدودة ..

هل يمكن الاعتماد على المعرفة الحسية فقط في إقامة المعرفة الموضوعيّة بأشياء العالم الخارجي؟

بالطبع لا .. للأسباب التالية:

- إنَّ الفروق الفرديّة تلعب دوراً هاماً في رصد العالم الخارجي حسيّاً، فهناك إنسان يمتلك بصراً أقوى من إنسان آخر مثلاً بالتالي ستكون معرفته مختلفة عن هذا الإنسان الآخر، و المعرفة الموضوعية يجب أن تكون شاملة ومتجاوزة للفروقات الفردية.

- من ناحية أخرى، فالحواس مخادعة، قد تبدي للإنسان ما هو غير موجود، ومن منّا لا يعرف ظاهرة السراب حيث يرى الإنسان ماءً في الصحراء مع أن ما يراه في الحقيقة ما هو سوى انكسار الضوء نتيجة تيارات الحمل الهوائية التي تلامس الأرض صعوداً وهبوطاً بسب ارتفاع درجة حرارة الرمال، مع ذلك فهي تبدو للبصر أنها ماء .. و أيضا فالحواس لوحدها لا تمد سوى بمعرفة قاصرة بأشياء نستمد معرفتنا بوجودها عن طريق أدوات أكثر تقدماً، كرصد الفضاء أو الميكروبات أو الأمواج فوق الصوتية أو الأشعة السينية وغيرها...

2- العقل: المعرفة العقليّة هي إدراك الإنسان للموضوعات المجرّدة، ونقصد بالمجرّدات تلك الأمور التي نكون على دراية بها بعقولنا مع أنها لا تمتلك أي وجود ملموس محسوس، وأشهر هذه المعارف هي مبادئ الرياضيات بشقيها: الكم المنفصل (الحساب) و الكم المتصل (الهندسة). مثال : أنت تعرف أن أقطار الدائرة متساوية، وأنت لا تحتاج للمس الدائرة أو شمها لتتيقن من ذلك، أنت لست بحاجة سوى للتفكير السليم لاكتشاف حقيقة هذا الأمر، فمعرفتك بهذا المبدأ هي معرفة عقلية. وكذلك مجموع زوايا المثلث ستكون 180 درجة، أيضاً حاصل قسمة العدد على نفسه ستكون واحد ...إلخ...

وقد ظهرت حديثاً معرفة في الفيزياء تعتمد المنهج العقلي بعد أن كان ميدان الفيزياء رهين المعرفة التجريبيّة فقط لعقود طوال، وهذه الفيزياء هي (الفيزياء النظرية) التي تستمد معطياتها من البراهين العقليّة على مقدماتها وليس من البراهين التجريبية كما هو الحال في الفيزياء التطبيقية، مثال : يمكننا تطبيق قانون الجاذبية لمعرفة وزننا على أيّ كوكب في المجموعة الشمسية وذلك بحساب رياضي دقيق دون حتى أن نتمكن من الوصول لهذا الكوكب، لأنَّ قانون الجاذبيّة هو قانون عام يصلح للتطبيق في أي نقطة من هذا الكون...

ما هو الفرق بين المعرفة الغيبيّة (الاعتقاديّة) والمعرفة العقليّة؟ الجواب أبسط من كل التعقيدات التي يضعها بعض الباحثين، فالمعرفة العقليّة تخضع لقواعد المنطق فهي معرفة (بديهية) لا يختلف عليها اثنان، ولا تحتاج للبرهنة عليها بغير نفسها (مبرهنة بذاتها) أما المعرفة الغيبيّة فهي معرفة ظنيّة مشكوك بها ومختلف عليها ويمكن للعقل الاعتقاد بها أو عدم الاعتقاد بها دون أن يناقض العقل نفسه، وباختصار فالمعرفة العقليّة لا يختلف عليها اثنان أما المعرفة الغيبية فهي ظنّية يقوم الخلاف بين العقول على وجودها وصحتها وثبوتها. مثال: لا يختلف عقلان على أنَّ مجموع مربعي طولي الضلعين القائمين في المثلث قائم الزاوية يساوي مربع طول الوتر (فيثاغورث) أما معرفتنا بوجود الأشباح فليست ملزمة للعقل ولا يناقض العقل نفسه إذا أنكرها كما أن الخلاف قائم على صدقيتها حتى بين الإنسان ونفسه على مراحل زمنيّة مختلفة.

3- التجربة : وهي تكامل معطيات الخبرة الحسيّة مع المبادئ العقليّة وعليها تقوم المعرفة العلميّة، ويسير المنهج العلمي وفق الخطوات التالية (الملاحظة – الفرض – التجريب – اكتشاف القانون)..

يتبع...

المصادر:

1- جيمس تريفل : لماذا العلم � ترجمة شوقي جلال � سلسلة عالم المعرفة � الكويت � العدد 372 .

2 - برتراند رسل : حكمة الغرب � ترجمة فؤاد زكريا � عالم المعرفة � الكويت � العدد 62 .

3 - حامد خليل : مشكلات فلسفية � منشورات جامعة دمشق � دمشق � 1995 .

مصدر الصورة:

هنا