الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

بين المراقبة والمعاقبة ميشيل فوكو

يُعدُّ ميشيل فوكو (Michel Foucault 1926-1984) بمنزلة مكتبة فريدة وغريبة في فلك الثقافة المعاصرة، وقد أصبح في سبعينيات القرن العشرين ناشطًا سياسيًّا، ودافع عن المثليين والمجموعات المهمّشة، ويصعب التفكير بـ فوكو بوصفه فيلسوفًا فقط؛ إذ إن تكوينه الأكاديمي في مجال علم النفس والاجتماع بالقدر نفسه في الفلسفة (1).

يُقدّم ميشيل فوكو في كتابه (المرقابة والمعاقبة؛ ولادة السجن) في قسم (التعذيب) مجموعة من الأمثلة التاريخية والحالات التي تتناول أشكال التعذيب والمؤسسات الجنائية، ويُشمَل هذا التسلسل في مجموعة من الحقبات الزمنية، إذ يُفكّك فوكو من خلالها فكرة المعاقبة لفهم سيكولوجية السجين المعذَّب وفهم بنية تطوّر المؤسسات الجنائية التي مرّت في عدة مراحل؛ منها عامود التشهير والدولاب والتفنُّن في التعذيب الجسدي وإعلان التعذيب في العقاب الملكي (1،2)

ومن الأمثلة عن هذه المؤسسات الجنائية هي (احتفالات التعذيب)، إذ يبدو الشعب -أو الجمهور- بها شخصية رئيسة واجبة الحضور لاستكمال طقوس تعذيب مُخالِف القانون -أو اللاهوت- السائد، وكلّما جرى التعذيب بصورة سرية أكثر قلَّ المعنى المراد إيصاله من السلطة ومؤسستها الجنائية، فالعبرة المطلوبة ليست فقط إيقاظ الوعي لدى المشاهدين قبل اقتراف أقل مخالفة تلقى العقاب نفسه،  بل بإثارة مفعول الرعب بمشهد السلطة وهي تصبّ سعار غضبها على الجاني؛ ففي الشأن الجنائي المذكور، تكوّن نقطة مشاهدة الجمهور للتعذيب الهدف والغاية الأهم، وتكون نتيجة هذا الاحتفال بالتعذيب أكثر فعالية كلّما طُبّق التعذيب تطبيقًا مرعبًا علنيًّا أكثر على المجرم (2).

وفي مرحلة المؤسسات القضائية الحديثة التي تحاول أن تُصلح وتُقوِّم وتُشفي...دون استخدام التعذيب الجسدي أو الإعلان عنه، إذ إن مؤسسة العدالة الحديثة مَنعت المساس بالجسد ولم يعد هناك مكان للعلاقة التي تنص على أن الجسد هو وسيلة يُشهّر بها من خلال التعذيب لإقامة نظام جنائي يُحقّق العدالة (2).

وهكذا بقي فقط عمق تعذيبي دون المساس بالجسد ضمن الآليات الحديثة للعدالة الجرمية، ومع أن هذا الـ "العمق التعذيبي" يصعب السيطرة عليه تمامًا، ولكنه مغلّف، وبصورة تزداد اتساعًا، بمعاقبة كل ما هوي غير جسدي؛ أي إنه استبدل القصاص الجسدي بقصاص يعمل على الفكر والحرية والإرادة (2).

وتبعًا لما ذكر أعلاه؛ يكون كتابُ ميشيل فوكو -(المراقبة والمعاقبة؛ ولادة السجن) المنشور عام 1975- مستندًا إلى هدف رئيس وهو دراسة جينالوجيا (أصول) تطوّر الطرائق الحديثة في العقاب؛ التي تعتمد على الإصلاح وليس على الإقصاء؛ أي سجن المجرمين وإصلاحهم عوضًا عن تعذيبهم أو قتلهم، ويمتد ميشيل فوكو إلى أبعد من ذلك؛ ويرى أن الطرائق الإصلاحية للسجون مؤهلة لتكون أنموذجًا قادرًا على السيطرة بفاعلية أكبر، ولكن هذا الأنموذج الإصلاحي لا يخلو من استخدام السلطة وهذا ما حظي بالدراسة والنقد من فوكو، والنظام الجنائي الحديث -حسب رأيه- قد يتحوّل إلى أنموذج للسيطرة على المجتمع بأكمله؛ وكأنَّه سجن مصغّر، وهذا من خلال بناء هيكل المصانع والمستشفيات والمدارس (السياسة الحيوية) على غرار أنموذج السجن الحديث (1).

هناك ثلاث تقنيات رئيسة للسيطرة في المجتمع الرقابي الحديث: أوّلها هو مراقبة هيراركية؛ -اتباع كل كيان في النظام لكيان أعلى بشكل تدريجي- ويقصد بها هنا المراقبة الهرمية من خلال السلطة عن طريق التفاوت الحاصل في الأدوار والفئات، إذ إنها تراقب المجتمع من خلاله، إضافةً إلى أن المجتمع يراقب ذاته على طريقة هذه الأنظمة الاستخباراتية، وتعمل تدريجيًّا لتنقل بيانات المُراقَبين من المستويات الدنيا إلى المستويات العليا، ويكمن هنا وجه الاختلاف بين نظام المراقبة الإصلاحي وبين نظام المراقبة الذي يعتمد على (الفرض والتطبيع) وهو التقنية الثانية في النظام الرقابي الحديث.

والأنظمة التأديبية الإصلاحية تعمل على تصحيح السلوك المنحرف، لكن في الأنظمة الحديثة -التي تعتمد الفرض والتطبيع- تستند الرقابة إلى فرض القانون السائد دون أن توضّح حالة أولئك المحكوم عليهم، هل هم (عاديون) ولماذا، أو (غير طبيعيون) ولماذا؟ ومن خلال ذلك يمارس النظام عملية الفرض والتطبيع من خلال المنشآت التي تطبّع -على سبيل المثال- المعايير الوطنية للبرامج التعليمية وغيرها (1).

و(الفحص) هو تقنية التحكّم الثالثة للسيطرة في المجتمع الرقابي الحديث، وهي طريقة سيطرة تجمع بين أنموذج الرقابة الهيراركية وتطبيع الأحكام -ثاني تقنيات الرقابة التي درسها ميشيل فوكو- وإن الـ (الفحص) هو المثال الرئيس على ما يسميه فوكو (المعرفة/السلطة)، ففي مثال فحص طلاب المدرسة أو المرضى في المستشفيات تعرف السلطة ما الذي يعرفه أولئك الخاضعين للفحص، ومن خلال ذلك يسهل التحكّم بهم من قبلها، فإنهم يقولون ما يعرفون أو يدلون معلومات عن حالتهم الصحية؛ وهذا يسمح بتوجّه تصرفاتهم من خلال إجبارهم على الدراسة أو توجيههم لبرنامج علاجي. وفي حساب فوكو نجد أنّ العلاقة بين السلطة والمعرفة بالنسبة لدراسة الموجود البشري لا يمكن فصلها، ومن ثمَّ فإن أهداف السلطة وأهداف المعرفة في علاقة وطيدة دائمًا: بالمعرفة نحن نتحكّم وبالتحكّم نحن نعرف، إضافةً إلى ذلك أن (الفحص) يُخضِع الأفراد إلى مجال التوثيق؛ إذ تُسجَّل نتائج كل فحص في وثائق مفصّلة عن الأفراد المفحوصين لتستخدمها السلطة في عملية التحكّم (1).

وبهذا يشير فوكو إلى أن المجتمع الحديث متشبّع من الرقابة الدائمة التي تديرها السلطة بكل مستوياته.

المصادر:

[1]

هنا

[2]

فوكو، ميشيل. (1990). المراقبة والمعاقبة؛ ولادة السجن. ترجمة: د.مقلد، علي. مراجعة وتقديم: صفدي، مطاع. (ط.1). لبنان: منشورات مركز الإنماء القومي. صـ 50-57، 88.