الفنون البصرية > سلسلة تاريخ الفن

أصلُ الإبداعِ الإنسانيّ من منظورٍ علميّ

إنّ معظم المقالات والكتب -التي تدور حول أصل الفن- تهتم اهتمامًا رئيسًا أو كليًّا بفنّ الكهفِ -في العصر الحجري القديم- والمنحوتات، مثل تماثيل "فينوس" آلهة الخصوبة، وإنَّ الرأيَ السائد منذ زمنٍ طويل -حول كون السلوك الإنساني الحديث، بما في ذلك سلوكه الفني لم يبدأ إلّا عندما هاجرَ الإنسانُ العاقل من إفريقيا إلى أوروبا قبل حوالي 45000 عام من الوقت الحاضر- قائمٌ على أساس فكرة وجود تغيّر تطوريّ سريع في الدماغ البشري، وبالتالي الإدراك(1) حيث يمكن للفن نقل المشاعر القويّة، نميزها من خلال القوة التعبيرية في التقاط تعبيرات الوجه ولغة الجسد (2).

يُعدُّ النُّطقُ وحركاتُ جذب الانتباه جزءًا من المنافسة القائمة على الهيمنة في مملكة الحيوانات منذ  الأزل، لذا من المرجّح أنَّ جذور الموسيقى والرّقص وتزيين الجّسد تكمن في عمق التاريخ التطوريّ للحيوانات، إلّا أنّها نُشرت بطرقٍ جديدة مع تطوّر الإدراك البشريّ مع إضافة معنىً رمزيًّا لها. الأمر الذي يُشار إليه باسم "ثورة العصر الحجري القديم".

لكن هل من المعقول أن تكونَ أوّل اللوحات والرّسومات الحقيقيّة هي تلك التي أنشأها رجلُ الكرومانيون (Cro-Magnon) -سكان العصر الحجري(4)- قبل 30000 عام على جدران الكهوف في العصر الحجريِّ القديم؟ بالطبع لا، كما أكّد المؤرخ الفني (5) غومبريتش (Gombrich) فالفنُّ مرتبطُ بالتقاليد، لذلك لا يمكن أن تكون هناك "عبقرية أصليّة" فقد زعم غومبريتش أنّ الفنَّ يتطوّر من خلال الحوار بين الفنّان والمُشاهد، ومع أنَّها ترتكز ضمن سياقها الثقافيِّ إلّا أنَّها تُطوّر حياةً خاصةً بها وتُؤثّر على تكوين الذّوق.

رجل الكرومانيون:

إنَّ أوّل دليلٍ معروفٍ على السلوكِ الفنيّ من داخل القارّة الإفريقيّة قبل انتشار البشر حول العالم هو تزيين جسم الإنسان، بما في ذلك تلوين الجلد باستخدام الخرز، مع إمكانية احتمال وجود أصول وظيفية لذلك. 

كما أنّ الأشكال المتعرّجة والأنماط المتقاطعة والمنحنيات المتداخلة والخطوط المتوازية هي أقدمُ النماذج المعروفة التي أُنشئت (بعيدًا عن تزيين الجسم البشري).

أمّا الفنّ ثلاثيّ الأبعاد فلربما بدأ مع التعرّف على التشابه بالكائنات الطبيعية الأُخرى، والتي عُدّلت لتعزيز هذا التشابه، كما تأثّرت بعض الفنون ثنائيّة الأبعاد بوضوحٍ بالمزايا الموحية لسطحٍ غير مستوٍ.

أما فيما يتعلّق بإنشاء صورٍ مُتخيَلة (the mind’s eye)، فقد كان يتطلّب تغييرًا تطوريًّا جوهريًّا في الإدراك، وكان لهذا التغيير ميزةٌ مساعدةٌ في البقاء على قيد الحياة تمثل في صنع الأدوات والصيد. ويشير تحليل أساليب صنع الأدوات المبكّرة إلى أنّ إنشاء أشياء ثلاثية الأبعاد (منحوتات وأعمال نقوش) يتضمّن تفكيكها المعرفي إلى سلسلة من الأسطح، وهو مبدأ كان يمكن تطبيقه على النحت المبكّر. ولا بدّ أنّ القدرة المعرفيّة على خَلق هذا النوع من الفنّ كانت قد نشأت في أفريقيا، لكن من المحتمل أنّ الممارسة  بدأت في أوقاتٍ مختلفةٍ في مجموعاتٍ متميزةٍ وراثيًّا وثقافيًّا داخل إفريقيا وأثناء الانتشار العالميّ، مما أدّى إلى التنوّع الذي شوهد في الفنّ القديم والحديث على حدٍّ سواء .

تؤكّد هذه الاكتشافات على أنّ اللوحات والنقوش والمنحوتات الأوروبيّة التي تعود إلى العصر الحجري القديم والذي يُعدّ الكثير منها أعمالًا ناضجة من الحِرف اليدويّة الماهرة، يكمن وراءها تاريخ طويل فيما يتعلّق بالتطوّر الإنساني والثقافي.

يبقى سؤال مهم: الفنُّ هو شكلٌ من أشكال المتعة للبشر وليس ضروريًّا للبقاء، فلماذا نشأ الإبداع الفني؟

العداء لمسافات طويلة بيرنت هاينريش (Bernt Heinrich)، في كتابه "سباق الظباء"، يشير إلى أنّه عندما تصطاد الحيوانات تتخلّى عن المطاردة عندما تختفي الفريسة من نطاق الرؤية؛ ومع ذلك، يعرف البشر أنّ الحيوان الذي اختفى في الأفق أو خلف مجموعة من الصخور لا يزالُ بالخلف لمتابعته.

إنَّ التغييرات العصبية-التي زوّدت أسلافنا بالخيال لفهم استمرار وجود شيء لم يعد مرئيًّا من خلال المنطق-كانت ميزة تطوريّة حقيقيّة.

بدون هذه الأصول الوظيفية المعززة للبقاء، من غير المحتمل أن يكون لدينا قدرات عقلية لخلق الفن.(1)

المصادر:

1- Morriss-Kay GM. The evolution of human artistic creativity [Internet]. Journal of anatomy. Blackwell Science Inc; 2010 [cited 2020Mar30]. Available from: هنا

2- Char.txa.cornell.edu. 2020. The Evolution Of Art. [online] Available at: <هنا; [Accessed 28 March 2020]. 

3- Encyclopedia Britannica. 2020. The Arts. [online] Available at: <هنا; [Accessed 28 March 2020]. 

4- Cro-Magnon | prehistoric human [Internet]. Encyclopedia Britannica. 2020 [cited 30 March 2020]. Available from: هنا

5- The Gombrich Archive [Internet]. The Gombrich Archive. 2020 [cited 30 March 2020]. Available from: هنا