الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع

الوعي الجمعي في "زمن الكورونا"؛ بين الفهم السوسيولوجي والنقد الفلسفي

نظريّة التعلّق الاجتماعي (Social Attachment) ورؤيتها للسلوك الجمعي في أثناء الكوارث:

يرى الباحثون أنّ النزعة الاجتماعية للفرد تطغى على خشيته من الخطر الذي ينتج في أثناء حلول الكوارث؛ إذ يختار الفرد البقاء ضمن دائرة الأشخاص والأماكن المألوفة، حتّى لو كان الخطر يحدق بهذه الأماكن. أي إنَّ الطبيعة الاجتماعية للبشر تفرض علينا التجمّع والالتحاق بمجموعاتنا التي ننتمي لها حين يدق ناقوس الخطر، وإن كان هذا الفعل على وجه الخصوص لا يساعد على التخلّص من التهديد، بل من الممكن أن يؤدّي هذا التصرّف في حالاتٍ معيّنة (كجائحة كورونا التي نعيشها الآن) إلى زيادة حجم الكارثة بدلاً من تجاوزها. ويعزو الباحثون هذا السلوك إلى نزعتنا الاجتماعية التي تجعلنا نخشى العزلة الاجتماعيّة ومفارقة أحبّائنا أكثر من أيِّ خطرٍ محتمل، لأنَّ العزلة تشكّل مصدراً للتوتر أو القلق يفوق ذلك الذي ينجم عن الخطر ذاته (1)، أي إنّنا نرى -بطريقةٍ ما- أنَّ التهديد الذي تحمله العزلة أكبر من ذلك الذي قد يسببه البقاء أو الذهاب إلى أماكن خطرة حيث يوجد أناسٌ مألوفون.

الهلع الجمعي (Mass Panic) بين مفهوم الإدراك الحسّي للخطر (Risk Perception) ونظريّة العدوى الاجتماعية (Social Contagion):

يُعرّف الهلع على أنّه غلوّ في الخوف أو الفزع غير المبرر، قد يصاحبه شعور بوجوب الفرار أو الهروب إلى أماكن يراها الفرد مألوفة وآمنة، ولكنها ليست بالضرورة كذلك. وعلى سبيل المثال؛ يشير بعض الباحثون إلى أنّه من الكافي لجندي في معركة أن يلوذ بالفرار؛ ليلحق به بقيّة الجنود من دون معرفتهم بسبب فرار الجندي؛ إذ يكفي مشهد الفرار لتوليد الشعور بالرغبة بالهرب حتّى في ظلِّ عدم وجود سببٍ وجيهٍ لهذا التصرّف بالأساس، ومن الجدير بالذكر أنَّ المراقب الموضوعي لمثل هذه التصرّفات قد يلاحظ عدم العقلانيّة أو الجدوى من هذا السلوك، أو حتّى عدم أمان الأماكن التي يظنّها الفرد خالية من الخطر، ولكن ذلك لا يعني أنَّ الفرد المنغمس بالهلع يرى الأمر بالطريقة نفسها (1).

لمحاولة فهم هذه الظاهرة، سنستعين بمفهوم الإدراك الحسّي للخطر الذي يفسّر طبيعة الإدراك البشري في المواقف التي تحمل تهديداً لنا بطريقةٍ أو بأخرى، وكيفيّة تقدير وعينا لوجود الأخطار المختلفة وحجمها. فتشير الدراسات إلى أنّ إدراكنا لا يعتمد على العقلانيّة والتفكير المنطقي حصرياً عند مواجهة التهديدات؛ إذ نميل في مثل هذه الظروف إلى إدراك ما يحدث حولنا من خلال الاستعانة بالجانب الشعوري من ذواتنا أيضاً، كالحدس والمخيّلة (2)، الشيء الذي قد يفسّر ما ذكرناه سابقاً بخصوص تباين حكم الفرد المصاب بالهلع ونظرة المراقب الخارجي لهذا الحكم؛ مما يعني أنَّ حكم الفرد الممزوج بالعقلانيّة والعاطفيّة قد يؤدّي به إلى ارتكاب أخطاء إدراكيّة وسلوكيّة يلحظها المراقب المتحلّي بالعقلانيّة فقط.

على صعيدٍ متّصل؛ تلقي نظرية العدوى الاجتماعيّة الضوء على الجانب الاجتماعي المشترك للإدراك الحسّي، خصوصاً في أثناء تعرّض الفرد للتهديد والخطر. إذ تؤكّد هذه النظريّة عدم نجاعة دراسة الإدراك الحسّي للفرد بمعزل عن الشبكة الاجتماعية التي ينتمي إليها، لأنَّ دراسة الإدراك وفهمه جيّداً يتطلّب البحث والتنقيب في العلاقات المشتركة ضمن الشبكات الاجتماعيّة، التي تساهم كثيراً في صياغة أفكار وسلوك الفرد، إضافةً إلى طريقة فهمه لمحيطه. إذ يرى الباحثون أنَّ الفرد يميل إلى تبّني وجهة النظر والسلوك السائدين في البيئة الاجتماعيّة التي يوجد بها ومن ثمَّ التصرّف بشكلٍ مشابه لباقي أفراد مجتمعه. أي إنَّ الفرد معرّض للعدوى الاجتماعيّة (التي تأتي على صيغة أفكار وقناعات وسلوكيّات) بطريقة مشابهة لتعرّضه للعدوى المرضيّة. يجدر الذكر أن هذه النظريّة لا تفترض وجود نيّة واعية من قبل أي من الأفراد بالمجتمع لنشر العدوى الاجتماعيّة، بل يكفي التمعّن بأنماط التواصل المشترك بين الأفراد لفهم آليّات ونتائج هذا النوع من العدوى (3).

السلوك الجمعي في سياق جائحة كورونا (Covid-19):

قد تكون لاحظت عزيزي القارئ بنفسك أو شاهدت عبر الإعلام بعض التصرّفات التي كنّا قد أشرنا إليها مسبقاً، كالهلع أو التجمّع الذي يعني عدم الالتزام بالإرشادات الوقائيّة كالتباعد الاجتماعي (Social Distancing) التي تنصح به منظمة الصحة العالمية (WHO) للحد من انتشار جائحة كورونا (4)، إضافةً إلى ارتفاع كبير في شراء وتخزين سلعٍ كورق المرحاض في بعض الدول كالولايات المتحدّة وكندا وبريطانيا (5)، الأمر الذي قد يؤدّي إلى حرمان الفئات الأضعف في المجتمع من هذه السلع بسبب نفاذها من المتاجر على نحوٍ مطّرد.

وتقدّم النظريّات التي ناقشناها مسبقاً عدّة تفسيرات لمثل هذه السلوكيّات. إذ تمكننا نظريّة التعلّق الاجتماعي من فهم الأسباب التي تؤدّي إلى التجمّع ومن ثمَّ عدم الالتزام بالإجراءات الضروريّة كالبقاء بالمنزل، وعلى الرغم من خطورة هذا التصرّف في ظلِّ الظرف الراهن. إذ تنسب هذه النظريّة سلوك الالتحاق بالمجموعات التي ننتمي لها إلى النزعة الاجتماعيّة التي تتملّك وتسيطر على الأفراد، حيث تجعلهم يخشون العزلة أكثر من الخطر الذي قد يهددهم في أثناء الأزمات والكوارث. ويلجأ الفرد في مثل هذه الحالات إلى البحث عن الأشخاص والأماكن المألوفة لظنّه أنَّ ذلك يوفّر الطمأنينية أو الأمان، وإن كان ذلك يعرقل جهود مكافحة تفشّي الجائحات (كمرض كورونا الحالي) أو السيطرة على الأزمات عموماً؛ الشيء الذي يؤخّر ويعيق عمليّة تجاوز المجتمع للأوضاع التي تشكّل خطراً وتهديداً للحياة. من جهةٍ أخرى؛ يفسّر مفهوم الإدراك الحسّي للخطر التباين بين حكم المراقب الموضوعي وحكم الفرد المصاب بالخوف أو الهلع الناجم عن إدراك أو تخيّل وجود خطرٍ ما، والذي قد يدفع الفرد إلى القيام بأفعال لا طائل منها وتصرّفات تتسم بعدم الصحّة أو العقلانيّة. أخيراً؛ تشير نظرية العدوى الاجتماعيّة إلى أنَّ إدراك الفرد وسلوكه يتأثّران كثيراً بالشبكة الاجتماعيّة التي ينتمي لها؛ مما قد يفسّر الانتشار الحالي للسلوك الشرائي المفرط للسلع والمستلزمات على نطاقٍ واسع في عدّة بلدان حول العالم. أي إنَّ هذا التصرّف قد يكون ناجماً عن تفشّي "عدوى الشراء والاستهلاك" ضمن المجتمع الواحد، بجانب عدوى الكورونا.

النقد الفلسفي للسلوك الجمعي؛ نيتشه مثالاً:

بعد أن قدّمنا رؤية وتفسيراً لبعض نظريّات العلوم الاجتماعيّة للسلوك الجمعي في أثناء الأزمات؛ حُريٌّ بنا أن نستعين بالتفكير والنقد الفلسفيّين لمحاولة التغلّب على التصرّفات غير البنّاءة السابق ذكرها، وذلك في إطار سعينا لاكتساب المناعة ضد العدوى الاجتماعيّة التي من الممكن أن تنقل إلينا سلوكاً وأفعالاً قد تؤدّي إلى إطالة أمد عمليّة تجاوز الظرف الراهن. إذ يرىششششدالفيلسوف الألماني نيتشه أنَّ سمة الكسل هي من أكثر السمات انتشاراً بين البشر؛ ويقصد بالكسل عمليّة تبنّي الفرد للآراء والسلوكيّات الشائعّة في محيطه، التي يلجأ لها ليوّفر على نفسه عناء التفكير والتأمّل اللذان يتطلبان جهداً إدراكيّاً يجده الفرد الكسول غايةً في الصعوبة. ويطلق نيتشه على هذا الميول البشري اسم "غريزة القطيع"، التي من واجب الفرد أن يسعى إلى تجاوزها من خلال تحرير نفسه من الآراء السائدة ومن ثم تهيئة نفسه لحمل مسؤولية أفكاره وآرائه وسلوكه. أي إنَّ نيتشه يدعونا إلى إدراك خصوصية وجود كلِّ فردٍ على حدةٍ وهو الذي يتميّز عن وجود باقي الأفراد، ولذلك يرى أنَّ على الفرد أن يُعطي خصوصيته حقّها من خلال التحرّر من نزعته التي تجعله يتبنّى ويقلّد ما يشاع حوله دون تفكيرٍ متمحّصٍ ناقد لصوابيّته أو عدمها (6)، وهو الشيء الذي يتطابق مع ما ذكرناه سابقاً بشأن تفشّي التصرّفات والسلوكيّات الخاطئة من قبل البعض في ظل جائحة كورونا التي نعيشها الآن، وهي التي تتطلّب جهوداً متظافرة من قبل الجميع كي نستطيع تجاوزها والعبور إلى شاطئ الخلاص منها.

المصادر:

[1] Mawson, Anthony R. Understanding Mass Panic and Other Collective Responses to Threat and Disaster. Psychiatry. 2015;68(2); 95-113

هنا

 

[2] هنا

[3] Scherer Clifford, Cho HIchang. A Social Network Contagion Theory of Risk Perception. Risk Analysis. 2003;23(2)

هنا

[4] هنا

[5] هنا

[6] Nietzsche, Friedrich. Untimely Meditations. Edited by Daniel Breazeale. Translated by R. J. Hollingdale. Cambridge: Cambridge University Press, 1997. pp 127-130