الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

النظام الشمولي (Totalitarianism)؛ الحُكم السياسي للطغيان

ظهرت الأنظمة الشمولية في القرن العشرين بوصفها شكلًا من أشكال الحكم السياسي للطغيان، وهو نظام (المجتمع المغلق)، ذو طبيعة استبدادية منحدرة من الفاشية والنازية، ومن أبرز سمات النظام الشمولي حكم الحزب الواحد؛ الذي يستخدم بدوره وسائل القمع والإرهاب وهدر حقّ المواطنة، ويسيطر على حرية التعبير والإعلام ومفاصل حياة الفرد على المستوى السياسي والاجتماعي دون أن يسمح بوجود تداول سلمي للسلطة؛ فإن بنية السلطة الشمولية مرتبطة بوجود نظام استخباراتي يلاحق الفئات الشعبية المعارضة للحكم وغير راضخة لنشاطاته الاستبدادية، وكذلك فإنها تحدّ من حرية التعدّد الحزبي المعبّر عن موقفه السياسي المستقل عنها (1)؛ إذ إن النظام الشمولي نظريًّا لا يسمح بالحرية الفردية ويسعى لإخضاع جميع جوانب حياة الفرد والأنشطة السياسية لإرادة وحكم السلطة (1)، وفي تعريف (الاستبداد) يقول الدكتور مصطفى حجازي في بحثه (الإنسان المهدور؛ دراسة تحليلية نفسية اجتماعية):

"على أن الاستبداد حين يصل حد الطغيان، وحين تحيط المخابرات بالإنسان من كل مكان وتحصي على أنفاسه، وحين يرى السلطان بأنه مالك للأرض وما عليها، ومَن عليها، وأن كل غنم يصيب الإنسان ما هو إلّا مكرمة أو منّة منه، وأن له حق التصرّف بالموارد والثروات والمقدرات والمصير والبشر، يهدر حق انتماء الإنسان ويصادر حقه البديهي في المواطنيّة (3)."

الشمولية (Totalitarianism) مشتقة من الفعل اللاتيني (Totalitas)، أي الكل أو الامتلاء، وتكون السلطة وزمام الأمور في النظام الشمولي في يد رجل واحد، ولهذا إن الشمولية في معظم الكتابات السياسية هي نقيض الديمقراطية (حكم الشعب) (1)، وصاغَ الديكتاتور الإيطالي بينيتو موسوليني (Benito Mussolini 1883-1945) مصطلح الـتوتاليتاريو (totalitario) -ويعني الشمولية- في أوائل العشرينات من القرن العشرين لتوصيف الدولة الإيطالية الفاشية الجديدة، والتي وصفها بأنها: "جميعها داخل الدولة، لا شيء خارج الدولة، لا شيء ضدّ الدولة (2).

ومع بداية الحرب العالمية الثانية أصبح وصف النظام الشمولي مرادفًا لحُكم الحزب الواحد القمعي وللحكم مُطلق السلطة الذي يحكمه رجلٌ واحد، ومن الأمثلة الحديثة عن النظام الشمولي: الاتحاد السوفيتي في عهد جوزيف ستالين (1878-1953 Joseph Stalin)، وألمانيا النازية في عهد أُودلف هتلر (1945-1889 Adolf Hitler) وجمهورية الصين الشعبية تحت حكم ماو تسي تونغ (1976-1893 Mao Zedong) وكوريا الشمالية تحت حكم سلالة كيم (Kim Dynasty) (2).

أما في القواميس الفرنسية (Larousse et Robert)؛ فهناك توافق على معنى مصطلح (Despote) بالفرنسية المكافئ لمصطلح المستبد بالعربية، وأصل الكلمة من اليونانية وتعني السيد (Maître) أو الحاكم الذي يحكم بسلطة اعتباطية مطلقة وقمعية، أو هو حاكم يعطي نفسه سلطة مفردة وطاغية (3).

"لا يدخل المستبد الناس في حسابه إلّا كأدوات لخدمة تعزيز سطوته وبسط نفوذه وتأزيل وجوده هؤلاء هم الحاشية التي تزين له عظمته، وأدوات القمع البوليسي والمخابراتي التي تعزّز له قوته وتحكمه، وحلفاؤه الذين يعززون له نفوذه (3)."

وظِّفَت وجهات نظر فلسفية متنوعة عن مفهوم النظام الشمولي، وتتشارك تلك وجهات النظر في قاسم مهم؛ هو قيمة حياة الإنسان، وحُرّيته المتمثِّلة في مجتمع متعدد في الطبقات ووجهات النظر، وإحياء الفكر النقدي والنشاط السياسي. والعديد من الشخصيات الرئيسة المناهضة للاستبداد هم اللاجئون اليهود الأوربيون الذين فرّوا من قمع الأنظمة الشمولية (6)، ومن بينهم الفيلسوفة والمنظِّرة السياسية الأمريكية من أصل ألماني حنة آرنت (Hannah Arendt 1906-1975)؛ التي نشرت عام 1951 عملها (أسس التوتاليتارية) الذي يعدُّ أهم المراجع الكلاسيكية في العلوم السياسية؛ وهو دراسة مفصَّلة للأنظمة الشمولية مثل النازية والستالينية وتحليلها الذي بدوره أثار جدلًا واسعًا فيما يخصّ الطبيعة السابقة لظاهرة الأنظمة الشمولية؛ أي شرح الأرضية التي تُنشِئ هذه الأنظمة، واستمرت في تطوير مفاهيم فلسفية سياسية جديدة تضيء على الحالة الإنسانية وقيمتها وكيفية توفير رؤية فلسفية لطبيعة الحياة السياسية (4,7).* 

حلّلت حنة آرنت أسّس الشمولية قبل أن تكون نظاما شموليًّا تامًا، وهذا بدءًا من تقنيات توظيف الديمقراطية في خدمة الأنظمة الشمولية؛ أي احتواء الشمولية للجماهير عبر الإعلام والخطابات الشعبوية بطرائق تبدو ديمقراطية ظاهريًّا؛ فإن آرنت ترى أن الأنظمة الشمولية تمارس أولى مراحل شموليتها عن طريق الدعاية وتوظيف الجماهير في اللحظات الحرجة، وتقدّم مثال عن ذلك صعود هتلر إلى السلطة ديمقراطيًّا، وتناقش الحركة الدعائية التي مارسها ستالين في حكمه أيضًا؛ لكن سرعان ما تظهر الشمولية عن أنيابها حين استلام زمام الأمور، وتقول آرنت: "إن ألمانيا لم تقارب إقامة نظام شمولي حقيقي إلّا بعد أن وفِّرت لها الحملات الشرقية جماهير بشرية عظيمة، باتت معها معسكرات الاعتقال والإبادة ممكنة (4)."

برأي المنظّرة السياسية آرنت أنّ الأمر يتحقَّق بحالة (مجتمع دون طبقات)، لأن أهم شروط توفّر الديمقراطية -التي باتت غطاء أكثر من كونها فعّالة في الوسط السياسي- أن يُعترف بحقّ طبقات المجتمعات كافةً بالمساواة والحرية والمشاركة في ساحة سياسية عامة، وهذا ما نظّرت به من خلال شرحها عن مفهوم الحرية والمواطنة والتعددية، فإن آرنت ترى أن الأمر أبعد من أن يكون -حسبَ وصفها- محض مهارة شيطانية من جانب القادة، أو حماقة صبيانية من قبل الجماهير، بل إن الديمقراطية بذاتها لا تكتسب معناها ووظيفتها العضوية إلّا حالما ينتمي المواطنون إلى جماعات تمثّلهم، أو تشكّل في ذاتها هرمية اجتماعية وسياسية، وفي حال انهيار منظومة الطبقات وغياب التفريع الاجتماعي (مجتمع دون طبقات) هو الانهيار المناسب لانطلاق الأنظمة الشمولية لتنظّم الجماهير باسم العِرق أو باسم الطبقة؛ مثل النازية، أو أن تتظاهر باتّباع قوانين الحياة أو الطبيعة أو الاقتصاد؛ مثل البلشفية (7,4).

ويتفق مع هذا الطرح على نحو معاصر محلّلون سياسيّون مثل المفكر (جورج طرابيشي 1939-2016)؛ إذ قدّم في كتابه (هرطقات؛ عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية) مقال (إشكاليات الديمقراطية) وتناولها تباعًا في ستة محاور تحدّد هفوات الحالة الديمقراطية في الوطن العربي التي تمنع وتقصي تنوّع طبقات المجتمعات وحرية الاختيار والاختلاف، أي كما سمّته آرنت (مجتمع دون طبقات) (5)، ويؤكّد مصطفى حجازي على ذلك من خلال بحثه في التحليل النفسي الاجتماعي (الإنسان المهدور) بأن لا يمكن للديمقراطية الصحيحة أن تتحقّق في ظل سلطة شمولية تُمارس تقنيات الهدر لحرية وكيان الإنسان في المجتمع (3).

*للاطلاع على مقال قيمة السياسة في فلسفة حنة آرنت: هنا

المصادر:

1-  الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية. ب/قسم الآداب والفلسفة. العدد 14-جوان 2015. صـ 3-11. للاطلاع من هنا

2- هنا

3- حجازي، مصطفى. (2005). الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية. (ط.1). لبنان-بيروت: المركز الثقافي العربي. ص23,32,76,83

4- آرنت، حنة. (2016). أسس التوتاليتارية. ترجمة: أبو زيد، انطوان. (ط.2). لبنان-بيروت: دار الساقي. ص30-39

5- طرابيشي، جورج. (2011). هرطقات؛ عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية. (ط.3). لبنان-بيروت: دار الساقي للطباعة والنشر. ص9-17

6- هنا

7- هنا