كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (البطء): فقدان المتعة والذاكرة

(ميلان كونديرا- Milan Kundera) كاتبٌ وروائي فرنسي من أصول تشيكية، ويُعد من أشهر الروائيين اليساريين، ومن أشهر أعماله رواية (كائن لا تحتمل خفته  هنا;)   والتي حُوِّلت إلى فلم يحمل الاسم ذاته، وكذلك رواية (المزحة) ورواية (كتاب الضحك والنسيان  هنا;)       

إنَّ رواية (البطء) هي أول رواية كتبها (كونديرا) باللغة الفرنسية، وهو يقدم فيها قصتين عاطفيتين إحداهما في القرن الثامن عشر، والأخرى في القرن العشرين. ويصوغ الحكايتين بدايةً من شخصه وكأنَّه يسافر في الزمن ويرتدي عباءة الإخفاء في رحلاته، فيدخل سراديب وغرفًا منسية، ويشهد خيانات وغراميات مخفية، ويحضر اجتماعات ومؤتمرات عالمية، ويجالس علماء وعشيقات سرية.  

وفي رحلته إلى الماضي؛ الذي تظهر فيها أولى علامات البطء ظهورًا جليًّا إن كان في لغة الكتابة أو أسلوب السرد، فهو يعتمد على كثيرٍ من التفاصيل والأحاديث المُقتضبة التي تكاد تنعدم في بعض الأحيان، وردود الأفعال الهادئة. 

ومن جهة أخرى، تبرز علامة أخرى للبطء في وصف اللذة الجنسية والتأني في المتعة في ذلك العصر الذي تميز بالتحرر الجنسي والانفتاح.

ثم يعود إلى الحاضر؛ إذ تتسارع وتيرة الأحداث وتتزايد الانفعالات وتكثر النقاشات، فزمن اليوم هو عصر السرعة بلا منازع ويعبر عنها (كونديرا) بقوله: "السرعة هي شكل الانخطاف الذي جعلت منه الثورة التقنية هدية للإنسان". 

ويعبر بأنَّ الإنسان في عجالته هذه قد فقد الذاكرة وفقد معها إحساس اللذة في الجنس وطعم المتعة في الحياة.

"عصرنا فتنه شيطان السرعة، لهذا السبب ينسى ذاته بسهولة".

ويختلي الكاتب بنفسه إلى حاضره الشخصي عدة مرات في أثناء رحلات ذهابه وإيابه، فتتوقف حروب الزمان، أما المكان؛ فهو أحد القصور الفرنسية القديمة، وهو يرمز إلى المشترك الخفي بين تلك الحكايات جميعًا في أروقته وسراديبه وحديقته وشرفته.

ويناقش (كونديرا) فلسفةَ الزمن من ناحية كيفية تغير استغلاله بين الماضي والحاضر، ويظهر -أيضًا- عن طريق العلاقات الحميمية في القصتين تغيُّر مفاهيم الجنس عبر الزمن، ويوضح وجهة نظره عن اللذة الجنسية وفق المذهب الأبيقوري؛ إذ يعتقد بأنَّ التحرر الجنسي مرتبط بالصراع مع الحياة والموت ويعتمد على قول أبيقور: "لا يصبو الإنسان الحكيم إلى أي نشاط يفضي إلى الصراع ". 

بالإضافة إلى أنَّه يؤكد على أحد أمراض العصر المولع بصناعة المجد الشخصي أمام عدسات الكاميرا على حساب الأمراض والمجاعات التي تلحق بدول العالم. وكذلك صور رجال السياسة وكأنَّهم راقصون يتراكضون إلى الاستعراض الأخلاقي أمام من أسماهم بالجمهور اللامرئي لهدف الشهرة والسلطة والنفوذ وكذلك لجذب الجنس الآخر.

"سيدي العزيز، إنَّنا لا نختار العصر الذي فيه نولد، نحن جميعًا نحيا تحت عدسات الكاميرا. وهو ما أصبح، من الآن فصاعدًا، جزءًا من الشرط الإنساني. حتى عندما نشن حروبًا، نخوضها تحت عدسات الكاميرا. وعندما نريد أن نحتج على شيء ما، لا نوفق في إسماع صوتنا من غير كاميرا".

إنَّ الجرح الذي تعرض له (ميلان كونديرا) في مسيرته كان عميقًا جدًّا، وذلك عندما اضطر إلى هجر بلاده (التشيك) والاستقرار في فرنسا بُعيد دخول قوات الاتحاد السوفييتي، وذلك على الرغم من انضمامه إلى الحزب الشيوعي آنذاك؛ إذ تكاد لا تخلو رواية من رواياته إلا وتظهر فيها آثار تلك الجراح بوضوح، وروايته هذه كان لها نصيب حين ترك مكانًا لإحدى الشخصيات لتمثِّل شعبًا منعزلًا عن العالم والتطور الذي لحق به إلى أن ضَمُر عقله ونما جسده، فيظهر شعبه بشخصية عالم عجوز متزمت للغته وتوَّاقٍ ليواكب مسيرة العلم، ولكنَّه يعلم في قرارة نفسه بالنقص المعرفي لديه حين يعتقد بأنَّ بُنيته الجسدية لربما تعوِّض تأخره العلمي عن أترابه، والزاوية نفسها تظهر دول أوروبا الغربية التي تنظر إليهم على وجه الشفقة والسخرية بآن معًا.

ويتميز (كونديرا) في أسلوبه الروائي بأنَّه يخرج أعماله على شكل لعبة البازل، فهو يقدم الشخصيات والأحداث والقصص الرئيسة والثانوية على شكل صور صغيرة متناثرة، ويعمل على بعثرتها في البداية ثم إعادة جمعها فصلًا بعد فصل وحدثًا بعد آخر، ولا تكتمل الصورة إلا بعد الانتهاء من الكلمة الأخيرة من آخر صفحة. 

ويضفي (كونديرا) على روايته لمسة سريالية بعصاه السحرية وقلمه الأسطوري لتعطي عناصر الغرابة والهزل، ولتخرج من بين يديه روايةٌ أقل ما توصف به بأنَّها تحفة فنية لم يسبق لها مثيل.

 معلومات الكتاب:

كونديرا، ميلان.(2013). البطء. ترجمة: بلقاسم، خالد. (ط1). المغرب-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي. عدد الصفحات: 126