كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (المصابيح الزرق): مأساة الحرب والبحث عن الجلاء

ولد الكاتب والروائي السوري (حنا مينه) في التاسع من آذار عام ١٩٢٤م، وهو ابن مدينة اللاذقية وابن بحرها وخصوبة جمالها، فيقول معلنًا علاقته الخاصة بالبحر: "لحمي سمك، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش صراع حياة، أما العواصف فقد نقشت وشمًا على جلدي، إذا نادوا يا بحر! أجبت أنا! البحر أنا، فيه ولدت وفيه أرغب أن أموت". (1)

لقد عاش هذا الإنسان البسيط(حنا مينه) حياته في فقر ومعاناة ما زادته إلا رؤية عميقة للحياة وللمجتمع البسيط الفقير الذي ترعرع فيه وشقي معه، فزاد وعيه بهموم الطبقة الفقيرة والاضطهاد الذي تتعرض إليه، ومن هنا بدأ مساره السياسي بصفته شابًّا، فقد حفزه نضاله ضد الاحتلال الفرنسي على كتابة الأخبار والمقالات الصغيرة حتى تدرَّج ليصل إلى كتابة القصص القصيرة ونشرها في صحف سورية ولبنانية، وصولًا إلى دخوله ميدان الرواية العربية وتميزه فيها ليصبح (كاتبُ الفرح والكفاح الإنسانيين) عَلَمًا من أعلام الرواية العربية وأحد كبار كتابها. (2)

إنَّ حياة (حنا) المملوءة بالكفاح كانت منذورةً لمنح الرؤية للناس ومساعدتهم على المعرفة والخلاص، وكان الحافز الأول لعطائه الأدبي تحقيقُ إنسانيته عن طريق تحقيق إنسانية الناس والارتقاء بهم، فبدأ مشواره الأدبي بكتابة مسرحية ذات نبرة اجتماعية نضالية وأخلاقية ولكنَّها ضاعت ولم يعد بعدها إلى كتابة المسرح، وتحوَّل بعد ذلك إلى كتابة القصة القصيرة، ونشر في الأربعينيات عشرات القصص القصيرة ذات الطابع السردي الواقعي، وقد تُرجم بعضها إلى اللغات الأجنبية، ليدخل ميدان الرواية العربية عام ١٩٥٢م. (2)

وقد تميزت رواياته بتنوعها الشديد واتساع آفاقها وموضوعاتها ورحابة دلالاتها، فهي روايات البطولة والصراع والنضال ضد الاستعمار والبرجوازية وضد الظلم بأشكاله كافة، وهي روايات للدفاع عن الفقراء والمسحوقين ومهضومي الحقوق. (3)

وتعدُّ رواية (المصابيح الزرق) عمله الأول في الأدب الروائي، وقد تُرجِمت هذه الرواية إلى اللغتين الروسية والصينية، وتحوَّلت إلى مسلسل سوري بالاسم نفسه عام ٢٠١٢م. 

وتعود بنا الرواية إلى فترة الحرب العالمية الثانية، وتدور أحداثها في مدينة اللاذقية في أثناء الاحتلال الفرنسي على سوريا، وقد كانت المصابيح تُطلى باللون الأزرق فتعطي ضوءًا شاحبًا يشبه ضوء المنارة في الضباب، ومن هنا أتى عنوان الرواية (المصابيح الزرق).

ولا تتدخل الرواية في تفاصيل سياسية أو أحداث تاريخية بل  تصور لنا حياة مجموعة من الناس البسطاء في أثناء الحرب، فنعيش فيها أجواء القلق والمعاناة والفقر الملازمة للحرب، بل والحب أيضًا، ولكن؛ في زمن استثنائي لا يترك مساحة للحلم والفرح.

ويخلق (حنا) روايته بلغة بسيطة وحوار يخلط فيه بين العامية والفصحى في توافق ناجح بعيد عن التعقيد ومملوء بالصدق. 

وإنَّ أكثر ما يميز هذه الرواية هو البناء الواقعي الحي للشخصيات؛ إذ إنَّك -وعلى الرغم من بساطتها- تعيش معها عمقًا فريدًا و تقمصًا حقيقيًّا، فتتبع تناقضات النفس البشرية في نزواتها وفضائلها وانتهازيتها في فترات الأزمات، وشهامتها وكرامتها أيضًا، وترى بوضوح أثر الحرب في النفوس، وتعيش معها المعاناة والأمل، وتتوجع وتنتفض وتبحث عن الجلاء.

وتبدأ الرواية بمقدمة للشاعر (شوقي البغدادي) من رابطة الكتاب العرب، يتحدث فيها عن مسيرة (حنا) في كتابة هذه الرواية وقد امتدت ثلاث سنوات، ويفتح لنا بمقدمته بابًا على الرواية وبنائها، ثم تبدأ الرواية وتمتد على طول ثلاثة فصول نتتبع فيها مسيرةَ (فارس)، وهو الشاب اليافع ذو السادسة عشر عامًا وتطورَه فترة الحرب حتى يصبح رجلًا بالغًا، فنعيش مع (فارس) مسيرة الشقاء  بحثًا عن لقمة العيش في ظل ظروف الحرب الصعبة والبطالة والاستغلال الذي يتعرض إليه الشعب، و نتعرف معه إلى معاني الشجاعة والحرية والكرامة في لقائه مع (عبد القادر) والذي يمثِّل شخصية الثائر المثقف الذي لا يهاب الموت، فنرى كيف ينضج الرجل فيه في ظل الحرب، وكيف أنَّ الحب ينبت على الرغم من الحرب ويخلق معه أملًا جديدًا وطريق كفاح لا ينتهي.

وليس (فارس) وحده بطل الرواية بل إنَّ كل شخصية في الرواية لها وجود مهم ومؤثر، وكأنَّ البطل الحقيقي هو المجتمع الذي تخلقه الرواية ككل، فتعيش الحياة اليومية مع (أبو فارس) الصامد بطبعه اللامبالي على الرغم من الوجع العميق، و(مريم السودا) وزوجها الفحل مشكلاتهما الدائمة، و(أم صقر) وتعلقها بابنها الوحيد، وهم جميعًا يشتركون في سكن واحد هو خان مؤلف من عدة غرف ويجمعهم الفقر والمعاناة نفسها، وترى (جريس) المختار يجسد الاستغلال والانتهازية، و(الحلبي) نراه بين الدكان والشارع يتعايش مع الناس ويشترك في المظاهرات ويسكر في الليل سرًّا، و(بشارة القندلفت) المخمور على الدوام و(الصفتلي) و(الإسكافي) وغيرهم من الشخصيات، وكلٌّ يأخذ موقعه بفرادته الشخصية وكلٌّ يبحث عن سبيل للنجاة من دوامة الحرب.

وقد استطاع (حنا) عن طريق المذهب الواقعي أن يرسم نهجه الخاص في الرواية ويمتلك أسلوبًا جذابًا ورشيقًا ومتميزًا، ويبني عالمًا روائيًّا متماسكًا يمجد فيه الإنسان وبطولته وصراعه وكفاحه من أجل الحرية والحياة.

ولا يخفى اختيار (حنا) شخصياته بعناية وجعلها بسيطة وواضحة لا تعقِّد القارئ، بل يتعرف إليها ببساطة ويعيش عمقها وتناقضاتها وأسئلتها.

 وفي النهاية لا يسعنا غير أن نقول إنَّها تجربة فريدة بالفعل تلك التي صاغها (حنا) على ضوء المصابيح الزرق،  وأقل ما يقال في عمل (حنا مينه) الروائي-الحياتي إنَّه أحد القلائل في الرواية العربية الذين صاغوا عالمًا روائيًّا متكاملًا وواقعيًّا، مثلما هو أحد الروائيين العرب القلائل -أيضًا- الذين جعلوا من الرواية العربية فنًّا شعبيًّا مقروءًا ومتداولًا بين عامة القراء.

معلومات الكتاب:

مينة، حنا. (١٩٨٢). المصابيح الزرق. (ط.4). لبنان- بيروت: دار الآداب. عدد الصفحات: ٣١٧.

المصادر:

[1] علي ابراهيم ت. رحل حنّا مينه. البعث. 2018.

[2] مينا، حنا. (2004). الرواية والروائي. سورية-دمشق: وزارة الثقافة. دار البعث: مختارات (6). صـ 19، 79

[3] عبيدي، مهدي. (2011). جمالية المكان في ثلاثية حنا مينا؛ حكاية بحار-الدقل-المرفأ البعيد. سورية-دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب. صـ 13