الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع

نشوء الصور النمطية (Stereotypes) وعواقبها

هناك كثير من التفسيرات التي تشرح سبب ظاهرة التنميط، والسبب المنطقي المباشر يرجع إلى نظرية التعلم الاجتماعي في المجتمعات (Social Learning Theory)؛ إذ تُكتَسَب الصور النمطية من الوالدين والمعلمين والأقران ووسائل الإعلام (1). إلا أنَّ هناك سبباً أكثرَ عُمقًا يتعلق بِحِسِّنَا الإدراكي، فيمكن القول: إنَّ التعقيد الذي يصاحب علاقاتنا الاجتماعية الكثيفة في ظل ظروف الحياة الحديثة يخلق الحاجة إلى ابتكار طرائق أسهل لمعالجة المعلومات؛ فلهذا السبب يعمل الإنسان على تأطير الأشخاص الذين يتفاعل معهم في مجموعاتٍ مختلفة، مما يساعده على معالجة بيانات جميع النشاطات الاجتماعية اليومية. لكن من ناحية أخرى؛ تخلق هذه الحاجة الاجتماعية الحديثة تربةً خصبة لتعميم القوالب النمطية؛ وهي التي تجعل من تقدير و فهم الأشخاص الآخرين معقدًا بسبب تبنّي أفكارٍ مسبقةٍ وثابتةٍ عنهم (2).

هناك أنواعٌ كثيرةٌ للصور النمطية، تركِّز أغلبها على الفروقات الواضحة بين الناس، فمن الممكن أن تكون بيولوجية مثل الجنس أو ثقافية مثل الطبقة الاجتماعية، ولكن يمكن أن يُسلَّط الضوءُ على أهمِّها وهي الجنس والدِّين والعِرق والثقافة والطبقة الاجتماعية والعُمر (3).

ويمكن أن تُبسَّط عملية فهم المبادئ المتعلقة بالصور النمطية بترتيب العملية على النحو الآتي:

  1. يصنِّف الناس الأشخاصَ في مجموعاتٍ مختلفة.
  2. يدفع هذا التصنيف الناسَ لتشكيل بعض الصور النمطية عن هذه المجموعات.
  3. تؤدي هذه الصور النمطية في بعض الأحيان إلى التمييز (1).

تعمل الصور النمطية عبر عمليةٍ تسمى بالتصنيفِ الاجتماعي (Social Grouping)؛ إذ يعرِّف الناس أنفسهم من خلال الفئات الاجتماعية التي يعتقدون أنهم ينتمون إليها وتسمّى بـ (المجموعة الداخلية) (In-Group)، ويتشابه الأشخاص في المجموعة الداخلية مع بعضهم البعض استنادًا إلى مجموعة متنوعة من القواسم المشتركة بما في ذلك الجنس أو العرق أو الدين أو الجغرافيا. تعتمد هذه الظاهرة على التصنيف الصريح للأشخاص إلى مجموعاتٍ مرغوبة ومجموعاتٍ خارجيةٍ (Out-Group) غير مرغوبة (4).

مَيْلُنَا إلى التمييز بين أعضاء المجموعة الداخلية والأعضاء خارج المجموعة له آثارٌ أخلاقية، فقد يضر الأشخاص بأولئك الذين يرون أنهم في مجموعةٍ خارجية بطرائق لن يؤذوا بها أعضاءَ المجموعة التي ينتمون إليها، على سبيل المثال؛ أظهرت إحدى الدراسات أنه عندما يرى مشجعو كرة القدم أن مشجعي فريقهم يتعرضون للأذى، يشعرون بالتعاطف، ولكن عندما يرون مشجعي فريقٍ منافسٍ يتعرضون للأذى على نحو مماثل؛ يشعرون بالرضا، ويميل الناس إلى إِصدار أحكام أخلاقية مختلفة استنادًا إلى الفروق داخل المجموعة وخارج المجموعة، فعندما يتصرف شخص ما في مجموعتنا تصرّفاً غير صحيح، يكون ردُّ الفعلِ الطبيعيّ في كثير من الأحيان هو تجاهل هذا التصرف بعدِّه أمرًا غير مهم، ولكن عندما يسلك شخص ما في مجموعةٍ خارجيةٍ التصرف نفسه، فإننا نميل إلى الحكم على السلوك بقسوةٍ أكبر.

إنَّ هذا التحليل يطرح تفسيرًا جزئيًّا لظاهرة إِيذاء الآخرين والتصرف بطريقةٍ غير أخلاقية تجاههم؛ وذلك عندما يُفرَّق تلقائيًّا بين الأشخاص على أساس مجموعاتي أو تصنيفي بدلًا من التفكير الواعي والمدروس (4).

يوضح عالم النفس الأمريكي جوردون ألبورت (Gordon Allport) في  كتابهِ (طبيعة التحيز) (The Nature of Prejudice - 1979) عواقب هذه العملية، فيشرحُ كيف أنَّ التَحاملَ والتمييز السلبي لـ (المجموعات الخارجية) يحدث في مستويات مختلفة ومتصاعدة، ويُعبَّر عنه باسم مراحل التحيز الخمس وهي:

  1. الاعتداء اللفظي: التعبير عن المشاعر السلبية للآخرين من خلال (التحدث ضدَّهم)، ويتضمن التعبيرات القوالبية والنكات الإثنية.
  2. التجنُّب: تَجنب حضور المجموعة أو صحبتها غير المرغوبة عمدًا، كعدم الجلوس بجوار عضوٍ "خارج المجموعة" في وسائل المواصلات.
  3. التمييز: وتتضمن تصرفاتٍ ونشاطاتٍ مؤذيةً ضد أشخاصٍ من خارج المجموعة، وإنكار مساواتهم وحقوقهم الأساسية.
  4. الاعتداء الجسدي: كمهاجمة الأشخاص والتنمر عليهم وارتكاب جرائم بحقِّهم.
  5. الإبادة: وهو الأنموذج الأكثر تطرفًا، ويتضمن القضاء على الفرد أو المجموعة غير المرغوب فيها، ويشمل المجازر وعمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية.

يعمل هذا المقياس على تسليط الضوء على مجموعة هائلة من التصرفات المتحيّزة المباشرة، ومع أن العديد من الناس لا ينتقلون من مستوى الاعتداء اللفظي إلى التجنب أو من التجنب إلى التمييز؛ إلا أنَّ النشاط على مستوى واحد يجعل الانتقال إلى مستوى آخر أكثر سهولةً واحتمالًا (5).

بالطبع قد يعتقدُ أيّ شخصٍ أنَّه شخصيًّا لا يتصرف بهذه الطريقة، لكن الأبحاثَ وجدت أنَّ الصورَ النمطية غالبًا ما تحدث دون إدراكٍ ووعيٍ؛ مما يجعل من الصعب على الآخرين أن يصححوها لهم. وحتى عندما يعتقد شخصٌ ما أنه عادلٌ تمامًا؛ يمكن أن يستخدم مع ذلك قوالبه النمطية للتغاضي عن التمييز الذي يحدث حوله مع غيره، وخصوصًا عندما يكون مشتتَ الذهن أو تحت الضغط (6).

علاوةً على ذلك؛ فإنَّ محاولة منع الصورة النمطية من التأثير في ردود الأفعال تجاه الآخرين تتطلب جهدًا، يعاني الأشخاصُ التّأثيرَ السلبي (وخاصةً القلق) عندما يحتكُّون مع أعضاء من مجموعات أخرى أكثر مما يحدث عندما يكونون مع أشخاص من مجموعاتهم الخاصة؛ لذا يجب البحث في الموضوع بعمق أكبر للتحكم في السلوك الشخصي، وخصوصًا عندما يتردد الشخص من الكشف عن الصور النمطية والتحيّزات الموجودة لديه (6).

الجانب المشرق في هذا الموضوع أنه يمكن مواجهة الصور النمطية والتحيّز بعدةِ طرائق، النقطة الأهمّ هنا أن يبدأ الشخص بتحليل ذاته أولاً قبل أي محاولة لنشر الوعي في المجتمع، من المهمّ إِدراكُ أنَّ الجميعَ لديه نوع من الصور النمطية إيجابيةً كانت أم سلبية؛ إنها جزءٌ من التجربة الإنسانية، ومع ذلك، فإن الخطوة الأولى هي أن الصدق مع النفس والاعتراف بالأحكام المسبقة عن الآخرين ولماذا نشأت هذه الأحكام، ومن ثَمَّ اتِّباع نهج نشط لنشر ثقافة تقبل الآخر ورفع مستوى الوعي عن هذا الموضوع.

المصادر:

1- هنا

2- page 2-4 هنا

3- هنا

4- هنا

5- Allport, G. W. (1966). The nature of prejudice (4th ed.)  Chapter 4 – Page 48-49

6- هنا