كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (الإنسان المهدور؛ دراسة تحليلية نفسية اجتماعية): حين تُهدر الثروة الإنسانية الجزء الثاني

نكمل في هذا المقال بحث (د.حجازي) عن الإنسان المهدور وآليات هذا الهدر وآثاره على المجتمع والشباب والثروة الإنسانية، بعد أن استعرضنا الأقسام الأولى من الكتاب في الجزء الأول هنا.

يشير (د.حجازي) إلى أنَّ (هدر الفكر) هو أحد أشدُّ أنواع الهدر خطورة، ويتجاوز خطر هدر الوعي والطاقات؛ إذ إنَّ الفكر هو المُنتج الأول لكليهما، إضافةً إلى أنَّه يصيب حيوية المجتمع ونماءه في الصميم. وفي التطرُّق إلى أهمية (الفكر) ونماء كل من الوعي والطاقات في المجتمع، يصف (د.حجازي) ذلك بفقدان المناعة ضد العصبيات والاستبداد واستِفحالها، فلا يمكن للاستبداد أن يُحكِم سيطرته، ولا يمكن للعصبيات أن تستنزف ثروة المجتمع وموارده ومؤسساته إلا عن طريق هدر الفكر والوعي والطاقات. يقول (د.حجازي) معقِّبًا على هذا القسم: "من هنا يتضح مدى إصرار الاستبداد والعصبيات على الهدر الثلاثي، والنجاح في فرضه وتعميمه، فإنَّ ديمومة تحكُّم الاستبداد والعصابيات تتناسب طرديًّا مع استفحال هذا الهدر الثلاثي".

ويشرَع (د.حجازي) في هذا القسم لتفحُّص نتائج هدر الفكر في المجتمع وتنقيحها، ويصف المجتمع المهدور أنَّه يفقد أهم خاصتين قام عليهم المجتمع الغربي في حداثته ونهضته، وهما التفكير والفعل، فإنَّ خاصة التفكير المهدور من السلطة تترك المجتمع مثل جثة هامدة -حسب وصف (د.حجازي)- ويدفع الفعل إلى حالة الخمول الدائم، وهذا بدوره ما يشكِّل بيئة خصبة لآلية الهدر المتصاعدة تجاه مرحلة أشد خطرًا.

وفي الإشارة إلى خاصتي (التفكير والفعل) بين المجتمع العربي والغربي، يقول (د.حجازي): "لقد ورثت الحضارة الغربية كلا من التفكير والفعل على مستوى العِلم من الحضارة العربية: أخذت التفكير عن ابن رشد مما تمثل في تأسيس الرشدية الأوروبية، كما أخذت الفعل والتجريب عن ابن الهيثم وأعماله الهامة في البصريات".

ويستهل في تقديم تلخيص مغامرة العقل الكبرى في الغرب للإشارة إلى أهمية هاتين الخاصتين في نهضته العلمية والحضارية.

يستكمل هذا الفصل البحث في الركنين الآخرين لثلاثية الهدر في الفصل السابق، وهما هدر الوعي وهدر الطاقات، ويركز على حالة الشباب تحديدًا؛ لأنَّهم الأكثر تعرضًا لهذا النوع من الهدر، بالإضافةً إلى أنَّهم العنصر الثوري في المجتمع الذي تُبنى عليه آمال نهضة المجتمع عن طريق تحرير وعيه (الفكر) وانبثاق طاقاته (الفعل).

"يتعرض الشباب راهنًا إذًا إلى خطر الغربة المزدوج: غربة في أرض الوطن، ومحاولات تغريب العولمة. الأولى تهمشهم  أما الثانية فتدفع بهم إلى المصير المجهول الذي لا مكانًا مضمونًا فيه، إلا للقلة، أبناء مجتمع الخمس".

ويذكر (د.حجازي) عنوانًا مثيرًا للجدل والتفكير وواسع الأُفق، وهو (العولمة ورضاعة التسلية). ويشرح به الوجه السلبي للعولمة، وهذا تبعًا للدراسات وللتحليل النفسي لتوجيه وعي شباب المجتمع على المستوى العربي والعالمي وتسخيفه، ويذكر في سياق ذلك عنوان (الدين الكروي) قاصدًا به تحويل رياضة كرة القدم إلى نوع معاصر من التديُّن الذي تُشرف عليه المشاريع التجارية وتؤمِّن له العولمة البيئةَ الخصبة، ويطرح مجموعة أمثلة تصبُّ في فكرة العولمة ورضاعة التسلية نفسها، ومن نتاج هذا التوجيه تحويلُ طاقات الشباب إلى انتماءات بعيدة عن قضاياهم المصيرية.

"الإلهاء استراتيجية معروفة منذ قديم الزمان، لتحويل الأنظار والأفكار والمواقف عن القضايا الحساسة والمصيرية".

 

يركِّز (د.حجازي) في هذا الفصل على الهدر الخاص الذي يتناول الأحداث اليومية، ويتوسَّع به في طرح إشكالية حالات الهدر ذات الطابع الوجودي التي تنخرط في نسيج حياتنا الشخصية، ومن هنا تبرز أهم معالم الفصل بين الهدر العام والخاص أو النوعي (الذي ذُكِر في بداية الكتاب).

 

"يتمثَّل القاسم المشترك لمختلف ألوان الهدر الوجودي في الحياة اليومية، في فشل مشروع تحقيق الذات وصناعة كيان في الوجود".

ومن أبرز آثار الهدر الخاص الشعورُ الداخلي بالاستلاب (الاغتراب) داخل الوطن وخارجه؛ إذ على مستوى الداخل يتجلَّى هذا الاغتراب في فقدان الشخص مكانتَه الكيانية لدى نفسه ومن حوله، فيشعر حينها بأنَّ وجوده عبء غير محدد الهدف والمصير وخال ٍمن أي أمل في المستقبل؛ ما يُنتِج أشكالًا من الاضطرابات النفسية والكآبة الوجودية/الداخلية.

بينما يدفع الشباب -على مستوى الخارج- إلى مخاطر الهجرة غير الشرعية (ويستشهد (د.حجازي) بضحايا الموت غرقًا وهم يحاولون الرحيل عن وطنهم)، ويتجلَّى شعور الاغتراب بفقدان الهوية والجذور  تجليًّا خالصًا.

يخصص هذا الفصل للبحث في الديناميات النفسية للإنسان المهدور، ويعالج عدة أسئلة منها؛ كيف يعيش الإنسان المهدور شرطه الإنساني ذاتيًّا؟ وما أبرز الآليات الدفاعية التي تظهر في حالة الهدر الكياني؟ وهنا يستفيض (د.حجازي) في شرح هذين السؤالين وتفكيكهما.

وتُعرَّف (الآليات الدفاعية) في هذا القسم، بأنَّها وسيلة مجابهة -واعية أو غير واعية- في وجه واقع يصعب تحمُّله، فيشرَع الإنسان في تكوين أفكار وسلوكيات تخفِّف من شدَّة هذا الواقع الذي يهدر كيانه ويدفعه تجاه البؤس والاغتراب والقلق الذاتي.

وتتفاقم هذه الآليات الدفاعية في حالة اضطراب التوازن بين قيمتين رئيستين في الكائن الإنسان، وهما الحياة والموت؛ فحين تتعطَّل نزوة الحياة والنماء وتصبح نزوة الموت الرغبةَ الفاعلة الأقوى في الساحة الوجودية يُهدر كيان الإنسان الوجودي وتبرز آلياته النفسية الدفاعية (التي قد ترتبط مع الغضب والعنف والتطرف الأصولي، والازدواجية في المعايير بين تصرُّف الشخص في الوسط الاجتماعي وتناقض ذلك مع سلوكياته على المستوى الداخلي غير المصرَّح به للمجتمع) في حياة الإنسان الشخصية، والتي يشرحها (د.حجازي) في هذا الفصل شرحًا مفصَّلًا.

"من آليات الدفاع التي لا زالت تنتشر في المجتمعات الصناعية المتقدمة منها، كما المتخلفة، ظواهر الفاشية والتطرُّف الأصولي".

 

يقول (د.حجازي) في بداية هذا الفصل: "رغم كل ما توحي به ظواهر الأمور فإنَّ النماء الحية لازالت حاضرة، ولا زالت تتكاثر رغم كل محاولات القمع والاستبداد والقمقمة. فالحياة تأبى إلا أن تجدد ذاتها؛ ينهزم جيل، فيأتي غيره، ويشيخ جيل فيشب من يليه".

ومن هنا ينطلق تجاه تقديم كيفية الاقتدار في مواجهة كل ما شرح في الفصول السابقة، بالإضافة إلى أنَّه يوظِّف علم النفس ليكون (إيجابيًّا) في رحلة الاقتدار تلك.

ويكشف (د.حجازي) شكل التواطؤ الذاتي مع الهدر؛ أي حين يكون المجتمع وشبابه وطاقاته متورِّطةً في عملية الهدر هذه، ويُكمل تجاه عملية المجابهة له عن طريق ثورة الكفاءات والفكر والفعل.

الخلاصة:

يُعدُّ بحث (د.حجازي) من أهم البحوث المجابهة للاستبداد والطغيان وهدر الثروة الإنسانية في مجتمعنا، والتي تُعدُّ حسب رؤية باحثي علم الاجتماع أحد أشد الإشكاليات كارثيةً.

ويسعى (د.حجازي) في عمله إلى دفع المجتمع تجاه فهم ذاته ونقاط ضعفه، وتوجيه رؤيته إلى كيفية المعالجة والإنماء، وبهذا يكون البحث مرجعًا ينطلق منه القرَّاء إلى فهم ذواتهم ومجتمعهم والآليات التي تهدر طاقاتهم وكياناتهم الوجودية.

معلومات الكتاب:

د.حجازي، مصطفى (2005). الإنسان المهدور؛ دراسة تحليلية نفسية اجتماعية. (ط.1). الدار البيضاء-المغرب. لبنان-بيروت: المركز الثقافي العربي. عدد الصفحات: 352