كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (الإنسان المهدور؛ دراسة تحليلية نفسية اجتماعية): حين تُهدَر الثروة الإنسانية الجزء الأول

تمثِّل هذه الدراسة تطويرًا من جهة التعمُّق والاستكمال لدراسة سابقتها بعنوان (التخلُّف الاجتماعي؛ سيكولوجية الإنسان المقهور هنا). وكمثل الدراسة السابقة، تندرج الدراسة الراهنة ضمن مشروع يطمح إلى توظيف علم النفس في خدمة قضايا التنمية الإنسانية، والتي تشمل التنمية الاقتصادية والفكرية والفنية والثقافية والعلمية وغيرها من المجالات الحيوية المهمة في وجود الإنسان في عالمنا العربي حسبَ واقعه الراهن الذي تتوافق الأدبيات على وصفه بالمأزقي كيانًا.

يقدِّم (د.حجازي) في هذا الفصل أهمية التنمية للثروة الإنسانية في الوطن العربي، بالإضافة إلى أنَّه يعرض وضعها الكارثي حسبَ الإحصاءات المقدمة من تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002، المكتب الإقليمي للدول العربية.

ويؤكِّد تقرير التنمية أنَّ الثروة الحقيقية للأمة العربية تكمن في ناسها (رجالًا ونساء وأطفالًا)، والتي تسعى إلى تحريرهم من الحرمان والهدر بتجلياته وأشكاله كلها؛ ممَّا يسمح لهم باتساع خياراتهم وسُبل إبداعهم، فتعريف (التنمية) هو: تنمية الناس على يد الناس ولأجل الناس.

فالإنسان وكرامته وطاقاته هو الهدف وهو الوسيلة في تحقيق الثروة الإنسانية التي تعود على الوطن.

ويشترط (د.حجازي) في صناعة إنسانية الإنسان -أي حريته في الاختيار والانخراط في الساحة السياسية والفكرية- أن تكون دون أيَّة ضغوطات سلطوية، وهذا يجب أن يسبق وجود مفهوم (الديمقراطية)؛ فحسبَ ما طرح في عمله من أنَّ حالة وجود أو ادعاء أو حالة ديمقراطية قبل صناعة الإنسان، هي حالة استعباطية وقشورية. (اطلع على مراجعة كتاب هرطقات؛ عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية هنا).

 

ويعرِّف (د. حجازي) مفهوم (الهدر الإنساني) الذي يستند عليه في عمله: أنَّه التنكُّر لإنسانية الإنسان وعدم الاعتراف بقيمته وحصانته وكيانه وحقوقه.

ومن هذا التعريف ينتقل (د.حجازي) إلى ألوان الهدر ومستوياته، ويقسِّمها إلى هدر عام وهو الذي يطال شرائح كبرى من الناس، وقد يطال المجتمع بأكمله، وهدر خاص أو نوعي، وهو ما يشيع في الحياة العامة والشخصية؛ ومن أبرزها الهدر العلائقي أو علاقات الهدر الذي يصيب المرأة والشباب والأطفال.

يرى (د.حجازي) أنَّ المجتمعات العربية ما زالت تعيش في تشابك الأزمنة ما بين قبلي وحديث، وما بين نسيج التعصُّب والانغلاق وقناع الحداثة والديمقراطية.

وأنَّ ما يسيِّر المجتمع إدارةٌ تُحرِّكها النظم العصبية على اختلافها: قبلية أو عشائرية أو عائلية أوطائفية أو إثنية أو جهوية، ويتشارك في هذه (الإدارة) الأحزاب والجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية.

ويعرِّف (د.حجازي) العصبية بأنَّها جماعة الأقارب المرتبطين ببعضهم والمُلتزمين ببعض، وينتمي الفرد إلى العصبة في حالة من التعصُّب عن طريق روابط مادية ومعنوية تجعل انتماءه إليها حالةً من الاندماج الكلي في الوحدة الجماعية، وبهذا تصبح هوية الإنسان قائمةً كليًّا على هذا الانتماء الكياني على حسب الهوية الوطنية والاستقلالية الفردية، وقد تُعمَّم هذه العصبية كي تتَّخذ شكل الرابطة العرقية أو الرابطة الدينية أو الطائفية أو حتى السياسية.

وتطرح هذه البنية العصبية مسألتين متلازمتين ومتكاملتين: العلاقة مع الداخل وبنية العصبية الداخلية، والعلاقة مع الخارج؛ وكلتاهما تضمنان  قوى فعَّالة تهدر الكيان الإنساني على مستوى الداخل (هدر كيان الأفراد المرتبطين مع العصبية) وعلى مستوى الخارج (هدر كيان الأفراد من العصبيات الأُخرى)، ومع هذا الهدر المزدوج يأتي هدر المؤسسات والطاقات المنتجة، وهدر الوطن وكيانه واندلاع حروب الهوية والتصفيات الطائفية/ السياسية؛ إذ لا تعترف بشيء فوق كيانها المنغلق تجاه نفسه وتجاه العصبيات الأُخرى، فهي تختزل مفهوم (الوطن) في كيانها الخاص.

"حين تتحكم البنى العصبية في وطن ما يتحول كيانه إلى مجرد وعاء شكلي معرض لشتى الأخطار الداخلية والخارجية".

يتناول (د.حجازي) في هذا الفصل تعريف كل من الاستبداد والطغيان، ويحلِّل الخصائص النفسية لشخصية الطاغية ودوافعه إلى فرض السيطرة على المجتمع (المهدور نتيجةً لتسلُّط حكمه) وصولًا إلى فرض السطوة المطلقة.

ويتوسَّع في هذا الفصل في شرح آليات التحكُّم والتلاعب المُمارسة لفرض الهيمنة على كيان المجتمع، ومن أبرز هذه التقنيات احتواءُ المُستبِد للعصبيات جميعها ليكوِّن عصبية تفوقهم في السطوة؛ إذ إنَّ الطغيان يقوم على تعزيز أشكال الانغلاق كلها طالما أنَّها تحت سطوته وتمنُّ له بالولاء الأعمى.

ويفكِّك (د.حجازي) العلاقات بين المُستبِد والناس، وكيف تُفعَّل آليات التلاعب والتحكُّم بالشعوب حتى تصل إلى حالة (العبودية المختارة)، فيقول (د.حجازي) في الاستبداد السياسي وهدر الكيان الإنساني للفرد:

"على أنَّ الاستبداد حين يصل حد الطغيان وحين تحيط المخابرات بالإنسان من كل مكان وتحصي على أنفاسه، وحين يعتبر السلطان بأنَّه مالك للأرض  ما عليها، وبالتالي مَن عليها، وأنَّ كل غنم يصيب الإنسان ما هو مكرمة أو منَّة منه، وأنَّ له حق التصرُّف بالموارد والثروات والمقدرات والمصير والبشر، يهدر حق انتماء الإنسان ويصادر حقه البديهي في المواطنة".

ويؤكِّد (د.حجازي) أنَّ ما ينتجه الاستبداد من قسوة وصرامة وقمع واعتباط وظلم، والذي تمارسه حكومة فردية أو جماعية مع استيلاء على السلطة بالقوة، لا بد أن ينتج الهدر في أقسى ألوانه؛ جاعلًا من هدر الدم مسألة مُبتذلة، مرورًا بهدر الكرامات وقيمة الكيان، وهدر العقول وصولًا إلى هدر الوعي، ويرى (د.حجازي) أنَّ الطغيان يشكِّل أعلى درجات الاستبداد وأشدَّها بطشًا ومباشرةً وفجاجَة.

يستوفي (د.حجازي) أشكال الهدر وصولًا إلى دراسة آليات الاعتقال والتعذيب، والتي يصفها بأشد حالات الهدر كارثية من جهة الإجرام، ويكشف في هذا القسم أساليب التعذيب وحيثياتها على الضحية؛ ممَّا يهدر كيانه النفسي والمادي، ويبحث فيما بعد التعذيب من آثار نفسية ترافق الضحية في حياته، فيتناول العمليات والآليات النفسية التي تُجرى في كلٍّ من التعذيب الجسدي العنيف، والتعذيب النفسي وغسيل الدماغ.

ومن المحاور التي يسلِّط عليها الضوء (د.حجازي) (سيكولوجية الجلَّاد)؛ إذ يفكِّك عقلية الأجهزة المخابراتية التي تمارس كلًا من التعذيب النفسي والجسدي.

"إذا تمَّ إلغاء إنسانية الإنسان، يفتح السبيل حرًّا أمام التصرف بكيانه تبعًا لأهواء ومخططات جلاديه، ذلك هو ما يحدث تمامًا في أنظمة الطغيان، حيث المعارض السياسي المعتقل يتحوَّل مسبقًا إلى اختزال كيانه في أسطورة الخيانة، أو التخريب والشر، أو عدو الأمن القومي".

 

يُتبع في الجزء الثاني:

هدر الفكر.

الشباب المهدور: هدر الوعي والطاقات والانتماء.

الهدر الوجودي في الحياة اليومية.

الديناميات النفسية للإنسان المهدور ودفاعاته.

علم النفس الإيجابي وبناء الاقتدار في مجابهة الهدر.

 

معلومات الكتاب:

د.حجازي، مصطفى (2005). الإنسان المهدور؛ دراسة تحليلية نفسية اجتماعية. (ط.1). الدار البيضاء-المغرب. لبنان-بيروت: المركز الثقافي العربي. عدد الصفحات: 352