أبحاث ومشاريع سورية > مشاريع جامعية

إعادة تأهيل معمل إسمنت دُمَّر

بداية فكرة المشروع:

في البدء كنَّا متأكدتين من أنَّ وجهة مشروعنا لا بُدَّ أن تركِّز على ما يخصُّ الشباب وتعالج مشكلةً حقيقيةً وتجلب الاهتمام في  الوقت ذاته. فكانت فكرة حاضنة الأعمال والورشات؛ وهي أمكنةٌ ذائعة الصيت في دول العالم وحتى في بعض دول الخليج مؤخرًا، وتهدف إلى تأمين مكانٍ مناسبٍ للأفكار الشبابية حيث يشرف نخبةٌ من رواد الأعمال عليهم.

كان لوجودنا في مكانٍ ريفي توجد فيه منشأةٌ صناعيةٌ ضخمة (معمل إسمنت دُمَّر) سببًا للفت انتباهنا إلى أمرٍ بالغ الأهمية؛ التوجُّه العالمي نحو إعادة استخدام وتطوير المباني الموجودة أساسًا بما يخفِّف تكاليف الإنشاء أو الهدم والترحيل.

حفَّزتنا الزيارات المتكرِّرة إلى استكشاف المزيد؛ إذ تجرَّأنا على دخول أماكن مغلقة كليًّا أو مدفونة تحت الأرض، أو تسلُّق ارتفاعات كبيرة تتيح لنا مشاهدة الموقع كاملًا. أمَّا تاريخ المعمل الدقيق فكان الجزء الأصعب في البحث. وفي ظلِّ عدم توفُّر معلوماتٍ إلكترونية أو ورقية مؤكَّدةٍ وكافية سعينا إلى البحث ضمن أكوام اعتراها الاهتراء والإسمنت وتأثيرات الجو عن ملصقاتٍ ومنشوراتٍ قديمةٍ ما تزال موجودةً ضمن المعمل ولكن بحالةٍ يُرثى لها. وقد كان دخولنا مصرَّحًا به من الجامعة ومن حرَّاس المعمل.

ولم نكن السبَّاقين لاختيار هذا المعمل مشروعًا لإعادة التأهيل؛ إذ طُرِح هذا المشروع في كلية الهندسة المعمارية منذ أكثر من 20 عامًا على الأقل، وقد استفدنا من العمل السابق لبعض الزملاء في الحصول على معلوماتٍ أساسية ومخططاتٍ للمعمل.

الصورة (1) صورة تظهر فرن الإنتاج الأصغر في وضعه الراهن - تاريخ الصورة 17-03-2017

المشروع:

يتميَّز معمل إسمنت دُمَّر بكونه أوَّل معملٍ للإسمنت يُنشأ في سورية؛ إذ أنشئ في بداية ثلاثينيات القرن الماضي ممَّا يعني أنَّ عمره الآن يناهز الـ 90 عامًا. وقد شهد هذا المعمل تاريخيًّا حقبًا مختلفةً في تاريخ سورية؛ إذ شُيِّد في فترة الانتداب الفرنسي برئاسة فارس الخوري وإدارة خالد العظم وهم من نخبة السياسيين والمفكرين السوريين في ذلك الوقت.

الصورة (2) صورة من أحد الكتيبات يظهر فيها رؤساء إدارة المعمل

منهجية إعادة التأهيل المتبعة:

كان الدافع الأساسي لاختيارنا المعمل هو تصميم حاضنةٍ للورشات والأعمال تصبُّ في مصلحة الشباب وتساعدهم في بناء مسارهم المهني اقتداءً بحاضنات الأعمال العالمية والخليجية مؤخَّرًا؛ كحاضنة (كريبتولابز) Krypto Labs في مدينة مصدر الإماراتية وحاضنة (1776) الأمريكية الأصل في دبي. لكنَّ قيمة المعمل التاريخية جمعت الماضي والحاضر وهيَّأت بيئةً لاستقبال فعالياتٍ من شأنها أن تغني هذا التراث المعماري والثقافي، فاتَّخذنا من القسم الذي ما يزال محافظًا على مسار خط الإنتاج الكبير –بتوجيهات الدكتور المشرف مشكورًا؛ الدكتور جمال الأحمر- متحفًا صناعيًّا يحاكي تجربة إنتاج الإسمنت بدءًا من الكسَّارات وحتَّى التعبئة. وبذلك حاولنا الحفاظ على الغالبية العظمى من منشآت وآليات المعمل التي تحتفظ بقيمةٍ علميةٍ وتكوِّن جزءًا فريدًا من عمليات الإنتاج. جاء ذلك بعد زياراتٍ ميدانيةٍ متكرِّرةٍ إلى المعمل لدراسة حالة المنشآت ودراسة فراغاتها وإمكانية احتوائها فعالياتٍ تحييها. وحرصنا في العمل على القياس الميداني لأطوال وأبعاد ما أمكن الوصول إليه من منشآت وآليات وتفاصيل من الممكن نمذجتها عن طريق البرامج الهندسية ومقارنتها مع الصور الملتقطة، وامتدَّ ذلك على مدار الأسابيع الثلاثة الأولى على نحوٍ رئيسي ثمَّ على امتداد فترة العمل -أربعة أشهر- لإضافة ما نقص من تفاصيل.

المتحف ومسارات الزيارة:

شكَّل المتحف العصب الحيوي للمشروع؛ إذ تنقسم رحلات الزيارة المفترضة في مشروع إعادة التأهيل إلى قسمين: زيارة قصيرة وزيارة طويلة، تسمح الأولى للزوار بزيارة معظم الفعاليات بحرية لكنَّها لا تؤمِّن الوصول إلى كافة الأجزاء، وتعتمد الثانية على مسارٍ طويلٍ يبدأ برحلةٍ في مقطورة قطار (يحاكي ذاك القطار المستخدَم سابقًا في الموقع لنقل المواد) ولكنَّه ينقل الزوار عبر معرضٍ للصور في معمل الأكياس الورقية ويعرض أيضًا الآلات التي ما تزال موجودة حتى الآن إلى أن يصل إلى نقطة بداية رحلة التصنيع في الكسَّارات. وينتقل الزوار هناك تدريجيًا عبر مساراتٍ خاصة إلى أن يصلوا إلى المسار الذي حلَّ محلَّ فرن الإنتاج المفقود ثمَّ إلى المطاحن النهائية ثمَّ قسم التعبئة وأماكن بيع التذكارات.

الصورة  (3) توزع فعاليات المشروع على أقسام المعمل المختلفة

الصورة (4) مسقط لفعاليات المتحف يوضح مساري الزيارة الطويل والقصير

الحاضنة:

اتخذت الحاضنة موقعين أساسيين؛ الموقع الأول في المنشأة الأطول في المعمل (الميدان) وهو مستودع نصف مكشوف، يبلغ طوله 290 م بعرض 24 م وارتفاع 24 م أيضًا. تضمَّن مقترحنا لاستغلال هذا الفراغ إنشاء وحدات (كبسولات) معدنية خفيفة ترتفع عن سوية الأرض بمقدار 8 م وتفصل الفراغ إلى أعلى وأسفل. وتضمُّ على نحوٍ أساسي مساحات عمل مشتركة وفراغات طباعة ثلاثية الأبعاد. ويمكن التنقُّل بين الكبسولات بواسطة مسارٍ متعرِّجٍ يحاكي الزوايا المختلفة التي اتَّخذتها الكبسولات؛ تجنُّبًا لخلق فراغٍ مملٍّ بصريًّا بسبب الامتداد الكبير للميدان. وللمسار نقاط انتقالٍ تتوزَّع على طوله وتسمح بالوصول إلى مسارين جانبيين يوفِّران المصاعد لتسهيل الحركة. وقد تُرِك الفراغ أسفل الكبسولات متاحًا لعامّة الناس من غير روَّاد الحاضنة لممارسة فعاليَّاتٍ مختلفةٍ على منصَّاتٍ أرضيةٍ للتزلُّج ومنصَّات لعب الشطرنج وغيرها، إضافةً إلى كافتيريا في نهاية المسار.

الموقع الثاني الذي اتَّخذته الحاضنة هو المساحة الحرة إلى جانب المعمل والتي تختلف فيها التضاريس قليلًا، وتختلف التضاريس في بعض المنشآت أيضًا تبعًا لوظيفتها. وقد كان هذا المبنى مضافاً إلى الموقع وليس استخدامًا لمنشأةٍ موجودة، ويضمُّ المكاتب والمكتبات وقاعات التدريب ومدرَّجات العرض ومعرضًا واسعًا.

الصورة (5) مقطع في الكبسولات داخل الميدان

الصورة (6) صورة من الفراغ العام أسفل الكبسولات في الميدان الكبير

الصورة (7) القسم المضاف (المبنى الأول للحاضنة)

الصورة (8) مساقط مبنى الحاضنة المضاف

الحديقة الصناعية:

أمَّا المساحة المتبقية التي تقع في الجهة الشرقية للمعمل وتضمُّ بعض الآلات والمنشآت التي تعود إلى خطوط الإنتاج الأصغر والتي تبدَّلت مرارًا عبر الزمن، فقد اقترحنا تحويلها إلى حديقةٍ صناعيةٍ اقتداءً بالبارك الصناعي الذي أنشئ في منجم الفحم الشهير تسولفيرآين Zollverein في مدينة إيسّن Essen في ألمانيا والمسَّجل على قائمة التراث العالمي جزءًا من التراث الصناعي العالمي. وتضمُّ الحديقة الصناعية أجزاءً مفتوحةً من المعمل للزيارة العامة لمن قد لا يرغب بزيارة المتحف، وفُعِّلت هذه الحديقة بفعاليات تجارية وخدمية كالمطاعم (التي اتَّخذت طابعًا صناعيًّا) ومعارض فنية لمنتجات الحاضنة ومسار للدراجات وملاعب رياضية ومعرض خطي يحاكي الفراغات الطويلة للمعمل لكنَّه يرتفع عن سطح الأرض ويمرُّ بفراغاتٍ مختلفةٍ من المعمل إلى أن يصل إلى برج الزراعة الشاقولية في نهايته. ولا بُدَّ أيضًا من الحديث عن المداخن المميزة للمعمل والتي تصل إلى ارتفاعاتٍ شاهقةٍ (100 م) في إحداها وتظهر على نحوٍ متوازنٍ تمامًا مع الامتدادات العرضية لفراغات المعمل عند مشاهدتها من الشارع الخارجي (طريق بيروت).

الصورة (9) منظور من الساحة الرئيسية في الحديقة الصناعية

الصورة (10) مساقط متتالية لأجزاء الحديقة الصناعية

حاولنا في التصميم أن نحافظ على معظم الأبنية الموجودة، وعمدنا إلى إزالة بعض المستودعات التي تكرَّرت في الموقع، لكنَّنا نرى الأمور الآن بعدسةٍ أوضح؛ إذ تبيَّن لنا بعد الدراسة الأعمق التي أنجزناها في ورقةٍ بحثيةٍ تناولت الاستثمار الثقافي للتراث الصناعي -والتي أُنجِزت بالتعاون مع مؤسسة "اتجاهات" للبحث الثقافي وبإشراف الدكتور إياس شاهين- أنَّ إنجاز أية عملية إزالة لا بُدَّ أن يخضع لدراسةٍ أكبر ممَّا قدمناه، وذلك بسبب ما يترتب على ذلك من أعباءٍ أو نقصٍ في الرواية التاريخية لحياة المعمل. نحن أكثر إدراكًا الآن لأهمية التراث الصناعي وأهمية هذه المنشأة وغيرها من المعالم الصناعية الموجودة في سورية كطواحين الحبوب التي يُرجَّح أنها أو أنَّ أجزاءً منها تعود إلى الفترة العثمانية في دمشق، ونواعير حماه التي لم تُدرج بعد في قائمة التراث العالمي لكنَّها في القوائم المؤقَّتة وهو أمرٌ جديرٌ بالاهتمام.

مسابقة تميز لمشاريع التخرج:

تأسَّست هذه الجائزة في العام 2012 في العراق لتشمل أكثر من النطاق المحلي؛ فتوسَّعت لتكون جائزةً عالميةً يشرف عليها ويقوم بالتحكيم فيها العديد من الأكاديميين المختصين والمعماريين مثل المعمارية الأشهر زها حديد والمعماري راسم بدران وغيرهم من المعماريين العرب والأجانب.

جاءت هذه الجائزة على نحوٍ مفاجئ دون تخطيطٍ كبير، وقد رتَّبنا أفكار مشروعنا في النسق المحدد للمسابقة وأضفنا الشرح اللازم، وقد فوجئنا بترشيحنا في القائمة الطويلة التي ضمَّت 50 مشروعًا عالميًّا، ثمَّ القائمة القصيرة المتضمنة 20 مشروعًا عالميًّا، ثمَّ إعلان النتائج وحصولنا على مرتبةٍ شرفيةٍ ضمن أفضل 10 مشاريع لهذا العام.

الصورة (11) إحدى اللوحات الثلاث المقدمة للمسابقة:

لا نعتقد أنَّ أيًّا من الطلاب الذين درسوا هذه المنشأة يختلف على أهمية المعمل وتاريخه الغني، وأنَّ على المعنيين اتخاذ خطواتٍ أكثر جدية من أجل حمايته واتباع مناهج علمية مدروسة عند التعامل معه مستقبلًا في حال إقرار العمل على أرضه؛ إذ لا بُدَّ من الأخذ بالحسبان التفاصيل التاريخية التي يمكن نقلها إلى أجيال لاحقة.

أمَّا على الصعيد الشخصي؛ فقد وسَّعت التجربتان اللتان خضناهما في كلٍّ من مشروع التخرج والجائزة والبحث الثقافي مداركنا حول التراث الصناعي وأهميته وكيف تولي دول العالم وخاصة في أوروبا اهتمامًا كبيرًا للمنشآت الصناعية التي تشكِّل جزءًا من التاريخ الذي تسعى هذه الدول إلى روايته واستثماره سياحيًّا أو بإعادة توظيفه، فتولَّدت بعد ذلك فكرة مبادرة (متر صناعي مربع) التي تُعنى بالتراث الصناعي في سورية وتبدأ من معمل الإسمنت وتسعى إلى نشر الوعي حول أهميته عن طريق منصَّات التواصل الاجتماعي. وما تزال هذه المبادرة في بداياتها وتسعى عن طريق العمل في التوثيق -وإن كان مجهودًا شخصيًّا- إلى نشر جزءٍ من تفاصيل تراثنا الصناعي المهمل بين عامَّة الناس.

*تالة معن الشامي

مهندسة معمارية؛ تخرَّجت من جامعة دمشق - قسم الهندسة المعمارية عام 2017. شاركت في العديد من ورشات العمل المعمارية والفنية بالتعاون مع جامعة دمشق وبعض الجهات الخاصة، وساهمت في مبادرة "سكتش لسوريا" وحصلت على المركز العاشر في المسابقة الداخلية برعاية الإسكوا (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية غرب آسيا – الأمم المتحدة) عام 2017. تعمل في مجال العمارة والتصميم الجرافيكي.

*لجين محمد طارق حليمة

مهندسة معمارية؛ تخرجت من جامعة دمشق قسم الهندسة المعمارية عام 2017. تعمل في مكتب معماري، وشاركت في عدد من ورشات العمل ضمن كلية الهندسة المعمارية.

المصادر:

1

مسابقة تميز - إعلان المشاريع الفائزة

هنا

2 تاريخ المعمل: 

    كتاب لـ فيليب شكري خوري (توثيق المرجع باللغتين)

   Shukry khoury Philip، Syria and the French Mandate the Politics of Arab Nationalism، 1920-1945، Princeton University Press، Princeton، New Jersey، 1989.

   شكري خوري فيليب، سوريا والانتداب الفرنسي سياسات الوطنيين العرب 1920-1945 Syria and the French Mandate the Politics of Arab Nationalism، 1920-1945، منشورات جامعة     برنستون،    برنستون، نيوجرسي، 1989. 

   هنا

   منشورات وكتيبات موجودة في المعمل تتحدث عن تاريخ تأسيسه وإنتاجه واجتماعات مدرائه السنوية

   أحدها: هنا

   أبحاث ودراسات عن المعمل:

   -حقي عصام، "صناعة الإسمنت وتطورها في سوريا"، دراسة اقتصادية لنيل شهادة مركز التدريب الإحصائي، 1981.

   -تقي عبد الله، "واقع محاسبة التكاليف في الشركة الوطنية لصنع الشمينتو ومواد البناء بدمر وإمكانية تطويرها"،رسالة لنيل دبلوم التخصص في التخطيط التجاري والمالي، 1977.

3 اتجاهات:

إنكليزي: هنا

عربي: هنا