علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث

الذّكاء العاطفي والتّحصيل الأكاديمي

يحتلّ التّحصيل الأكاديميّ جزءًا كبيرًا ومهمًّا في حياتنا، وخاصّة في الآونة الأخيرة، فجميعنا يسعى إلى تطوير ذاته، وقد ازداد الإقبال على التّعليم العالي والدّراسات العليا -ماستر ودكتوراه وزمالة- وارتفع سقف الأحلام وانتقل التّنافس بين الطّلاب إلى أهاليهم، فترى الوجوه المتّشحة بسواد الإجهاد، وعندما تسألهم ما الخطب؟ يجيبون: "إن ولدي يجري امتحانًا اليوم!".

اكتشف العلماء والباحثون وجودَ دورٍ إيجابي للذّكاء العاطفيّ (emotional intelligence) في التّحصيل الأكاديميّ. 

ولكن قبل أن نتابع سبرَ أغوار هذا الاكتشاف، لا بد لنا أن نتعرّف أولًا ماهيةَ الذّكاء العاطفيّ..

يمثّل الذّكاء العاطفيّ مجموعةً من المهارات الّتي تمكّنك من معرفة مشاعرك وتمييزها وفهمها، والقدرة على إدارتها وتنظيمها، والقدرة على تمييز مشاعر الآخرين ومعرفتها وفهمها،وكذلك التأثير فيها.

ولكن، كيف أعرف إن كنتُ أتمتّع بالذّكاء العاطفي أو لا؟

يتمتّع الأذكياء عاطفيًّا بصفات محدّدة، فهم يعرفون تمامًا الرّابطَ بين مشاعرهم وطريقة تصرّفهم، ويحافظون على هدوئهم ورباطة جأشهم في مواقف التّوتر، وهم قادرون على التّأثير في الأخرين لتحقيق أهدافٍ مشتركة، ويتعاملون مع صعبي المراس بلباقة ودبلوماسيّة.

وعلى العكس؛ تجد من يتمتّعون بمستوى منخفض من الذّكاء العاطفيّ دائمي الشّعور بأنَّ لا أحد يفهمهم، ويسهُل إزعاجهم، وتغمرهم المشاعر السلبيّة، ويعانون عدمَ القدرة على اتّخاذ القرارات الجازمة.

والخبر السارّ الأكيد فيما يخصّ الذّكاء العاطفيّ أنه يمكن تعلّمه وتطويره لدى أيّ شخص، ولكن قبل ذلك يجب أن نعرف عناصره أولًا، وهي أربعة عناصر رئيسة:

الوعي الذّاتيّ (self-awareness): 

ويمثّل القدرةَ على فهم مشاعرك الخاصّة وتأثيرها في الآخرين حولك، أو الإشارات الّتي ترسلها إلى الشّخص الّذي تتعامل معه. بمعنى آخر؛ هو حجر الأساس في الذّكاء العاطفيّ، وإليه ترتكز بقيّة العناصر. 

فإذا كنت واعيًا لمشاعرك والتّصرفات الّتي تثيرها هذه المشاعر، كنت قادرًا على إدارتها والتّحكم في التّصرفات النّاجمة عنها، إذ تؤثّر مشاعرنا في مزاجنا وتصرفاتنا وأدائنا وتفاعلنا مع الآخرين، ويكون الواعي لمشاعره واثقًا من نفسه ومبدعًا وقادرًا على اتّخاذ القرارات بطريقةٍ أفضل، ويبني علاقاتٍ أقوى مع الآخرين ويتواصل بطريقة بنّاءة.

التّنظيم أو التّحكم الذّاتي (Self-regulation):

مفتاحه الوعي الذّاتي، وهو القدرة على إدارة مشاعرك وتصرفاتك، فحالما تعي مشاعرَك ستكون قادرًا على إدارتها والتّحكم بها، إذ يتمتع الأشخاص ذوو التّحكم الذّاتي بالقدرة على التّوقف لأخذ نفس عميق في حالات التّوتر والشّدّة، مما يساعدهم على الحفاظ على الهدوء، ويساعدهم على التّفكير قبل الكلام أو التّصرف، وتغلب عليهم النّظرة الإيجابيّة والقدرة على التّكيف في مختلف الظّروف والحالات، في حين يحفّز غير القادرين على احتواء مشاعرهم السّلبية سلسلةً من ردود الفعل السلبيّة لدى الآخرين.

الوعي الاجتماعيّ (Empathy):

وهو قدرتنا على فهم مشاعر الآخرين ومفتاحه التعاطف، وللتّعاطف ثلاثة مكوّنات وهي: تحديد شعور الآخر، ومشاركته الشّعور ثم الأمل بتحسّن التّجربة.

والتعاطف لا يعني أبدًا شعورَك لو كنت مكانهم، وإنما إحساسك وإدراكك شعورهم الحقيقي في هذا الموقف. 

ويميل الأشخاص ذوو الوعي الاجتماعيّ القويّ إلى اللّطف، ولكن هذا لا يعني أنّهم غير قادرين على إبداء رأيهم بصراحة أو التّعقيب بحزم، فلا بدَّ من توجيه النّقد البنّاء أحيانًا، إن أردنا التّحسن فعلًا.

الدّافع (Motivation):

يتطلّب تحفيز نفسك لأي إنجاز أهدافًا واضحةً وموقفًا إيجابيًّا، فعلى الرغم من أنه قد يكون لديك ميلٌ إلى موقف إيجابيّ أو سلبي، فإنّه يمكنك بجهد وممارسة أن تتعلّم التّفكيرَ على نحو أكثر إيجابيّة. 

وإذا واجهت أفكارًا سلبية، يمكنك إعادة صياغتها بعبارات أكثر إيجابيّة، ممّا يساعدك على تحقيق أهدافك. 

المهارات الاجتماعيّة (Social skills):

 وهي ما يميّز القائد العظيم من القائد الجيّد؛ وتتضمن القدرةَ على التّأثير في الغير وإدارة الخلافات والعمل الجماعيّ والقدرة على إلهام الآخرين وبناء علاقات صحيّة والحفاظ عليها. 

ويستطيع هؤلاء إحداثَ تغيير كبير في العمل الجماعيّ والمنظّمات لأنّهم يفهمون الآخرين ويستخدمون هذه المعرفة لتحريك الجموع نحو هدف مشترك.

والآن هل تساءلت يومًا: ما هي العوامل الّتي تكمن خلف فشل ذوي معدل الذكاء المرتفع في حين ينجح متوسطوه؟

إن معامل ذكائك ليس البطل الوحيد في نجاحك المهني أو الحياتي، إذ يُجمع علماء النّفس على أن معامل الذّكاء يشكّل 10% وفي أحسن حالاته 25% فقط من بين مكونات النّجاح، وتشكّل عواملُ أخرى النّسبةَ المتبقية، ومن بينها الذّكاء العاطفي.

 

وتُظهِر دراسة أجريت على خريجي جامعة هارفرد في الاقتصاد والقانون والطّبّ أنه لا يوجد رابط بين معامل الذّكاء الفرديّ المتمثل في نتائج امتحانات القبول، وبين النجاح المهنيّ اللاحق. 

وتظهر دراسة أخرى، وهي عبارة عن مراجعة منهجية (systematic review) نشرت في 12 كانون الأول عام 2019 في مجلة النّشرة النّفسيّة للجمعيّة الأمريكيّة لعلم النّفس أنّ الطّلاب القادرين على فهم عواطفهم ومشاعرهم وإدارتها، يتحسّن أداؤهم المدرسي. 

وتقول البروفيسورة كارولين من جامعة سيدني والمؤلف الرئيس للدراسة: لا يكفي أن تكون ذكيًّا ومجتهدًا لتنجح في المدرسة، بل عليك أن تكون قادرًا على فهم مشاعرك وإدارتها، وهو ما يسمى الذّكاء العاطفيّ. 

وفيما يتعلّق بالأسباب، تقول كارولين: إنّ السّبب يكمن في قدرتهم على التّحكم في المشاعر السّلبيّة كالقلق والتّوتّر والملل والخيبة الّتي تؤثّر سلبًا في الأداء الأكاديميّ، وأنهم قد يكونوا قادرين على إدارة البيئة الاجتماعيّة المحيطة بهم وتنظيمها مكوِّنين علاقات أفضل مع معلّميهم وأقرانهم وعائلاتهم، والتي تشكل عاملًا مهمًّا في النّجاح الأكاديميّ. وأخيرًا، إن المهارات الّتي يتطلبها الذّكاء العاطفيّ كفهم الدّوافع والعواطف الإنسانيّة قد تتداخل مع المهارات الّتي يتطلبها إتقان مواد محددّة مثل التاريخ واللّغة، مانحةً إياهم ميزةً في مجالات هذه المواد. 

وتحذّر كارولين من إجراء اختبارات لتحديد مستوى ذكاء الطّلاب العاطفيّ؛ لأنّ ذلك يسبّب وصمَهم وتمييزهم عن غيرهم بصورةٍ سلبيّة، وتحذر أيضًا من استخدام مختصين لتحسينه، وتقترح -عوضًا عن ذلك- تدريبَ المعلّمين على ذلك ليكون منهجًا دراسيًّا يُسعى إلى تحسينه لدى جميع الطّلاب بغض النّظر عن مستواهم الحالي.

ولكن كيف أطور مستوى ذكائي العاطفيّ وأرفعه؟

يبدأ الأمر من الوعي الذّاتي؛ فبدون الفهم الموضوعيّ لكينونة مشاعرنا وما يُثيرنا! سيكون ذلك مستحيلًا، وما يقف حائلًا دون ذلك أحيانًا هو مبالغتنا في الثّقة بأنفسنا، وبمدى معرفتنا أنفسنا، ويمنعنا من تقبّل النّقد البنّاء الصّادق، وهذا في الغالب ما يجعلنا ندّعي أنّنا نعاني عدمَ فهم الآخرين لنا!

إنّ تطوير الذكاء العاطفيّ وتحسينه عمليّة مستمرّة تختلف من شخص إلى آخر، ولكنّها في الغالب قد تتلخّص في خطواتٍ عدّة وهي:

ميّز مشاعرك وسمّها: 

ما شعورك الآن؟ ماذا تسمّيه؟ ما المشاعر الّتي تنتابك في لحظات التّوتر؟ وكيف تستجيب لها؟ هل أنت قادر على احتوائها والتّوقف قليلًا لتعيد التّفكير في ردّة فعلك تجاهها؟  

إن تريّثك دقيقةً وتسميتك شعورك وتلطيفك ردّة فعلك، يشكّل خطوةً مهمّة نحو تحسين ذكائك العاطفيّ.

اطلب تعقيبًا على تصرّفاتك: 

اسأل رؤساءك أو زملاءك أو أصدقاءك أو عائلتك أن يقيِّموا ذكاءك العاطفيّ، اسألهم رأيهم بطريقةِ استجابتك في الظّروف والحالات الصّعبة، وعن مدى تكيّفك وتعاطفك وكيفية تعاملك مع الخلافات.

قد لا يكون رأيهم دائمًا هو الرأي الّذي تريد سماعه، ولكن في الغالب سيكون الرأي الذي تحتاجه حقًّا.

اقرأ الأدب: 

أكثرْ من قراءة القصص والروايات؛ إذ تُظهر الدّراسات أنّ القراءة عن الشخصيات المعقّدة تحسّن التّعاطف، وأنّ قراءة القصص من وجهة نظر الآخرين تساعدك على اكتساب البصيرة اللازمة لفهم أفكارهم ودوافعهم وأفعالهم، وقد تحسّن وعيَك الاجتماعي.

وأخيرًا؛ ابنِ ثقافةَ الذكاء العاطفي من حولك: 

كن قدوةً لمن حولك في ذلك، وابدأ بخلق مجتمعك المليء بأبطال يساعدون غيرهم، فليست العبرة في من يصل القمة، بل بجميع من ساعده على بلوغها.

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا