كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (غراميات مرحة): ما بين المرح والكذب نفصح عن الحقيقة

ناقدٌ فني مهم في مجلة الفكر التشكيلي، إضافةً إلى أنَّه محاضرٌ ذو مركزٍ قيِّم في إحدى الجامعات، ويعيش مع محبوبته -التي تصغره بثلاثة عشر عامًا- حياةً تتجاوز قِيَم مجتمعه المحافظ جزئيًّا، وكان هناك رسالةٌ سمَّاها (بداية النهاية) فتحها بينما يرتشف كأس مشروبٍ فاخر في سهرة هادئة بينما ينام في حضن محبوبته الصغيرة (كلارا)، وقرأ الرسالة في لامبالاة واستخفاف، وهكذا بدأ الروائي الفرنسي من أصول تشيكية (ميلان كونديرا Milan Kundera) قصته الأولى في روايته (غرامياتٌ مرحة).

لا أحد سيضحك:

طلب رئيس التحرير من الناقد أن يكتب تقريرًا مفصَّلًا عن مقالة رجل يُدعى (زاتورتِسكي)، وإنَّ تقريره هذا يحدِّد ما إن كانت مقالة (زاتورتِسكي) تستحق النشر أو لا، بينما كانت الرسالة (بداية النهاية) من (زاتورتِسكي) نفسه، وقد عبَّر فيها عن أمله من الناقد لإعطاء صورة إيجابية عن مقالةٍ كلَّفته ثلاث سنين من عمره، وإنَّ هذا التقرير هو السبيل الوحيد لتنشر في المجلة، وهنا صاغ (كونديرا) حبكته عن أولى أشكال الملاحقة المرحة بين الناقد (وزاتورتِسكي)، ولكن؛ سرعان ما ورَّط اليافعة (كلارا) في صراعٍ صار يتفاقم بسرعة، فيأخذ القارئ معه في ازدياد تواتر الأحداث من تلاعبٍ مرح إلى إنذاراتٍ خطيرة؛ إذ كان الناقد يرفض الإفصاح في تقريرٍ عن رأيه الذي هو: أنَّ هذه المقالة حشوٌ فارغ وكثيرٌ من التراهات دون أي حسٍّ منطقي أو فني، وهذا كي لا يصنع الأعداء أيضًا، فكان يتساءل: بكل حال، لماذا أنا الوحيد الذي يجب أن أصنع أعداءً لي، لماذا أنا من يتورَّط دائمًا؟

ولكنَّ الرجلَ قصير القامة (زاتورتِسكي) قدَّم للناقد كثيرًا من الاحترام والتبجيل في البداية، ويقول أيضًا في كل لقاء بينهما: أنت أملي الوحيد؛ ممَّا يجعل الناقد يتكتَّم عن مصارحته أمام كمِّ الأمل والرجاء الذي يراه، ومع محاولات تهرُّب الناقد منه لأشهر عدَّة والذي احتلها كثيرٌ من الكذب، ينتهي الأمر بينهما بتبادل الاتهامات، فقد رأى الناقد أنَّ اتهام (زاتورتِسكي) بالتحرُّش بمحبوبته كذبةٌ أسهل عليه، وأكثر فكاهة من كتابة ذلك التقرير، وهكذا تفاقم الأمر ليصبح خطيرًا، وصار شبح (زاتورتِسكي) وزوجته التي خاضت المعركة معه، إضافةً إلى شبح كذباته المرحة التي أخذت منحى آخر يعتِّم على حياة الناقد ومحبوبته.

ويجسِّد (كونديرا) هنا خطورةَ الفكاهة والاستهتار في مجتمعٍ تحكمه قوانين صارمة، وتحكمه الإشاعات والسمعة بين الناس أيضًا، فإنَّ تاريخ كل أحدٍ منهم يشكِّل له رعبًا وقنبلةً موقوتة، ففي هذا المجتمع لا مكان للمزاح والألاعيب. 

وقد كانت طرائق تهرُّب الناقد من قصير القامة ذاك فكاهيةً -حسب رأيه- وكان كل شيء يدور من مغامرات ومراوغة عبارة عن فكاهة ودهاء ومرح، وهكذا حتى حالت الأمور تجاه الخطر، فحين تحدَّث الناقد مع رئيس قسم التدريس في الجامعة التي يعمل فيها محاضرًا، جرى الحوار كالآتي:

عن أي مخالفة تتحدث! سأشرح علنًا الأمور كما حدثت، فالبشر إن كانوا بشرًا، لن يسعهم إلا أن يضحكوا.

كما تريد، لكنك ستكتشف أن البشر ليسوا بشرًا، وأنَّك لا تعرف من هم البشر، لن يضحكوا.

  

وبرعَ (كونديرا) في تقديم تعريفٍ استثنائي للكذب والدهاء، فإنَّ شخصية الناقد في روايته هذه قد كذبت في كل شيء، ولكنَّه لا يعدُّه كذبًا بل عدَّه الـ(أنا)؛ أي حقيقته، وعلى الرغم من بحر الكذب ذاك لم ينهِ ورطته بكذبةٍ أخرى تمسُّ قِيَم العلم الذي يتقنه ويديره، فإنَّ كتابة التقرير كانت تشكِّل له مبدأً لا يراهن عليه بالكذب أو الفكاهة، فهو ليس وسيلة مرح، وهذا جوهر تلك الشخصية الذي تكشفه (كلارا) الصغيرة.

مغامراتٌ تحكمها ألاعيبٌ وغوايات:

لم ينهِ (كونديرا) سرد المغامرات الغرامية المرحة، بل كان يشرَع من واحدةٍ إلى أخرى، فثمَّة سبعُ مغامراتٍ تحمل معها أصواتًا متعددة، وفي كل مغامرةٍ شخصيات تخوض حكاياتها مع النساء فتُعرِّي أرواحها أمام المرح والكذب والفكاهة؛ فإنَّ (مارتن) مثلًا شخصيةٌ ذكية تصطاد النساء -على حدِّ تعبيره- فيهرول وراء هذا المرح مع صديقه الكاذب والغيور من خبرته في التعامل مع النساء، ولكنَّ (مارتن) متزوج، وهذا ما يثير فضول صديقه وغضبه في آنٍ، وعلاوة على ذلك، فإنَّ (مارتن) يصفُ زوجته بأنَّها معيار الجمال الأرقى، وأنَّه يُحبِّها جدَّا ولا يمكن أن يتخلَّى عنها، بل يُقدِّسها، وقد يبدو هذا متناقضًا، ولكنَّ (كونديرا) دأب على توظيف هذا التناقض في عمله ليُخرج منه جوهر (الشهوة الخالدة) التي كُشِفَت في معركة الكذب والمرح عن طريق اقتباساتٍ دقيقة في السرد الحواري، إضافةً إلى عنونة كل سردٍ بما يليق به، فيصحُّ القول هنا إنَّ العمل غنيٌّ بحواراته وليس بأحداثه، وهذا على الرغم من الاقتصاد اللغوي في كل قصة، وتناقل الأحداث بسرعة في هذه المغامرات.

أكثر من مرح، بل لعبةٌ خطيرة!

في قصة (لعبة الأتوسْتُوب) تبدأ مزحة مرحة أخرى، ومغامرة جديدة، بين عاشقين يلعبان لعبة اللقاء الأول، ويبدو هذا مثيرًا في البداية، وخاصةً حين مثَّل كلٌّ منهما دور من يلتقي بالآخر لأول مرة، وحين يشتكي أحدهم عن حبيبه -الذي يفترض أنَّه غير موجود معهما حسب قواعد اللعبة- يعلم الآخر أنه يقصد معاتبته معاتبةً مؤدَّبةً وغير مباشرة، وقد كان أثر هذه اللعبة سهلًا عليهما فعلًا؛ العتب والنقد والمهاجمة أسهل، وتمثيل الأدوار البعيدة أسهل.

ولكن؛ كانا يبدوان أنَّهما يتحولان كُليًّا شيئًا فشيئًا إلى أشخاصٍ آخرين؛ أي أنَّهما يحرِّران مكنونات النفس ومآربها، فماذا يريد (كونديرا) هنا؟ قد يريدنا أن نعلم أنَّ الأمر (أكثر من مرح)، ولكن؛ كيف ذلك؟ هذا ما سيبقى رهن تشرُّب القارئ وتعمُّقه في حوارات هذا العمل ومغامراته في قصصه السبع، فمنها ما ذكرنا بعضًا من تفاصيلها ومنها ما بقيت تنتظر القُرَّاء لاكتشافها.

"نجتاز الحاضر بعيون معصوبة، وأقصى ما نستطيعه هو أن نستشعر ونخمِّن ما نعيشه، ونحن لا ندرك ما عشناه ونفهم معناه إلَّا  لاحقًا، عندما تزول العصابة عن أعيننا، ونعيد تفحُّص الماضي".

نرشِّح لك للكاتب نفسه: مراجعة رواية (الضحك والنسيان) هنا

معلومات الكتاب:

كونديرا، ميلان. غراميات مرحة (2012). ترجمة: العماري، محمد التهامي. بيروت-لبنان، الدار البيضاء-المغرب: المركز الثقافي العربي. عدد الصفحات: 272.