التاريخ وعلم الآثار > حضارة اسلامية

أبو الطاهر البغدادي ... حين تبعث في الأرقام الحياة

زخرت بغداد خلال فترة العصور الوسيطة بكم كبير من العلماء تحديدا في القرنين العاشر والحادي عشر حيث بقي العلماء والعلم أحياء بالرغم من كل الظروف والعوامل الصعبة التي لم تكن الحروب الصليبية آخرها، تلك المرحلة التي شكلت جزءا كبير مما نطلق عليه اليوم "الحضارة الإسلامية"، وبسبب تزاحم العلماء في تلك الفترة كان لابد لمجموعة من العلماء أن يحظوا بالتقدير والثناء وأن يخلد ذكراهم في أعمالهم التي وصلت إلينا وأن يظلم قسم آخر ويغيب بسبب قلة ما ذكر عنها وندرة ما وصلنا من علمهم وإسهامهم.

بطلنا اليوم هو أحد هؤلاء العظماء الذين لم يصل لنا من أعمالهم وذكرهم إلا القليل واسمه أبو منصور ويلقب بالبغدادي وأحيانا أخرى يلقب بابن طاهر، وهو عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله التميمي البغدادي، يرجع أصله إلى واحدة من أعرق بطون العرب، فقبيلة تميم كانت من أكبر القبائل وأشهرها وكان يفخر أعضاء القبيلة بعظمة نسبهم هذا لما يعرف عن قبيلة تميم من كثرة في الرجال والمال وعز في النسب ورفعة في الأصل فمنهم خرج العديد من سادة وأشراف العرب.

ولد البغدادي سنة 980 م وكان من سعد حظه أن له أبا داعما للعلم كمؤسسة لدعم المنح الدراسية في يومنا هذا، فلم يوفر الغالي والرخيص من أجل تعليم ابنه أفضل تعليم، درس في صغر سنه علوم الدين ومذاهبه واتبع المذهب الشافعي، وما إن اشتد عوده حتى فارق عز قبيلته وماله وأهله وشد الرحال إلى بغداد حيث جلس فيها برهة ثم انتقل إلى مدرسة من أعظم مدراس العلم في تاريخ البشرية، فأبو منصور خريج مدرسة جنديسابور في شمال شرق إيران، وخلال هذه الرحلة رافقه والده طيب الذكر والذي بفضله وبفضلة إغداقه على إبنه بالمال الوفير كان أبو منصور العالم.

خلال الاضطرابات التي عصفت بجنديسابور، اضطر البغدادي لمغادرة المكان بحثا عن مكان أكثر أمنا، فاتجه إلى مدينة Asfirayin حيث وجد الهدوء المناسب من أجل الدراسة، ومن فرط شهرته في جنديسابور حزن الناس لخسارة هذا المعلم الذي كان واضحا لنا أنه كان من أميز المدرسين في عصره، وباتجاهه إلى هذه البلدة وجد البغدادي السلام الذي كان يبحث عنه فبدأ رحلته في الدراسة والتدريس.

وفي Asfirayin كان أبو منصور يعلم في المسجد، وتمتع بحس عال من المروءة والتحفيز على التعليم، فكان لا يأخذ مقابل تعليمه أي أجر، فكان غنيا بما يكفي لينفق على نفسه ويدعم طلبة العلم في Asfirayin بالتعليم المجاني وهذا ما حدا بالكثيرين إلى إعطائه مرتبة شرفية وعلمية عالية.

كتب البغدادي على الأقل كتابين في الرياضيات من أعظم الكتب، أما الكتاب الأول كان كتابا في المساحة، ولم يكن كتابا ذا أهمية إذ عني بالمساحة والأطوال ولعله كان كتابا تعليميا لتلامذته المستجدين في علوم الرياضيات، أما الكتاب الثاني فكان على قدر كبير من الأهمية، ما حدى بالكثير من المؤرخين باعتباره أطروحة مثالية أضافت بحثاً أصيلا في الرياضيات، وقد ألف أطروحته تحت عنوان "التكملة في الحساب" حيث استخدم البغدادي أنظمة متنوعة في العد والحساب، أو ما بات يعرف بالعد الستيني.

والعد الستيني هو نظام العد المتبع عند البابليين القدماء، وهو نظام عد بسيط يستخدمم في قياس الزوايا، وأهم استخداماته التي لازلنا نعتم عليها هي قياس الوقت.

واستخدم البغدادي هذا النظام الستيني معتمدا على علم الحساب بالأرقام والكسور الهندية، ولعلنا هنا نتعمق أكثر في حديث الرياضيات وما اكتشفه هذا العالم الجليل، فهو مكتشف نظرية العدد العقلاني، فالعدد العقلاني هو عدد يمكن ان يكتب بأنه حاصل قسمة أعداد صحيحة، أما العدد غير العقلاني هو عدد حقيقي لكنه غير منطقي بحيث لايمكن كتابته كناتج قسمة أعداد صحيحة.

ولتقريب الصورة للأذهان فإن العدد إثنين تحت الجذر هو عدد غير عقلاني بحيث لايمكن كتابته ضمن كسور، أما الأعداد من نوع 1/2 و 3/5 فهي أعداد عقلانية يمكن تمثيلها بقسمة أعداد صحيحة.

وكان ما سبق هو مجرد فكر نظري لمجموعة من التبيقات التي قدمها في كتاب التكملة في الحساب، وكانت هذه التطبيقات إسهاما حقيقيا في نظرية الأعداد، حيث أتاحت لنا تعليقاته في كتابه للحصول على الكثير من المعلومات عن الخوارزمي وعن تعليقاته في نظرية الأعداد التي لم تصلنا لأنها فقدت.

ولتسليط الضوء أكثر على إسهامه الفريد من نوعه في نظرية الأعداد، كان لابد علينا أن نعرف لماذا قسم علماء الرياضيات في عصر النهضة الحساب إلى "نظام العد الأحادي" و "نظام العد العشري". فما كان يستخدمم فيه نظام العد وفق الحسابات الهندية (المعداد) فكان يطلق عليه "نظام العد الأحادي"، أما كان يستخدم "نظام العد العشري" الذي طور قضاياه الخوارزمي فعلى عكس ما كان يعتقد العض فهو نظام عد غير عامل وفق الحسابات الهندية بل كان أقرب إلى نظام العد الذي ابتكره البغدادي.

وإذا ما اقتربنا أكثر من نظرية الأعداد في كتاب التكملة، فإننا نرى أن البغدادي في كتابه هذا ناقش مجموعة من القضايا المهمة التي مهدت لنظرية الأعداد المعروفة في يومنا هذا ولنعرف كيف عرف البغدادي هذه الأعداد سنرمز للأعداد على أنها N ولقواسم الأعداد بـ S(n):

- أعداد الوفرة: وهو عدد صحيح يكون مجموع قواسمه أكبر من الرقم نفسه على سبيل المثال 12 والذي قواسمه 1، 2، 3، 4، 6 ومجموعها 16 (S(n) > n)

- الأعداد التامة: وهو رقم صحيح يكون مجموع قواسمه مساويا له، على سبيل المثال قواسم العدد 6 هي 1، 2، 3( S(n) = n)

- الأعداد الناقصة: وهو عدد صحيح يكون مجموع قواسمه أقل من العدد نفس، على سبيل المثال العدد 8 قوسمه 1،2،4 ومجموعها 7 (S(n) < n)

وكان من بين ما ناقشه أيضا:

- الأعداد المتوافقة: وهي مجموعة الأعداد الصحيحة التي لها نفس القاسم المشترك، على سبيل المثال 159، 559، 703 جميعها تشترك في قاسم واحد وهو 57.

ومن المعروف أن أول من درس هذه القضايا كان علماء الإغريق، ولكن الإغريق لم يعطوها هذا المنحى التطبيقي الذي وضعه البغدادي، ولنا أن نعلم أن البغدادي توصل إلى نتيجة أن أصغر عدد وفير هو 945، نتيجة ولسوء حظ البغدادي نسبت لاحقا إلى كلود جاسبيرد باشيت دي ميزيرياك Claude Gaspard Bachet de Méziriac، عالم الرياضيات الفرنسي (1581 – 1638م) المشهور.

وناقش البغدادي أيضا ادعائات نوكوميكوس Nicomachus (حوالي 60 – 120م) العالم الرياضي الإغريقي حول الأعداد التامة، وأكد أن هناك جزء كبير من ادعائاته باطلة وخاطئة وبيّن ذلك في كتابه التكملة في الحساب، والتي بقيت مقبولة في أوروبا حتى القرن السادس عشر الميلادي. وبعد ذلك أسهب البغدادي في شرح الأعداد المتوفقة، وهو أول من قال في الأعداد المتوافقة.

لقد أثرت نظريات البغدادي على عصر النهضة، وتجلت إبداعاته في الإسهامات الجلية في نظرية الأعداد، توفي البغدادي في عام 1037 تاركا وراءه كتابين فقط، لكنها بألف كتاب، لم يصلنا الكثير عن البغدادي وعن تفاصيل حياته ولكن إسهامه في نظرية الأعداد سيخلد أسمه بين علماء الرياضيات ما بقيت نظرية الأعداد حية ومستخدمة.

المصادر

هنا